هاهي بشائر الخيرات قد أطلّت علينا ابتداء من هذه الليلة ليلة الواحد والعشرين من رمضان ، بقدوم العشر الآواخر ، والتي بها نسائم الرّحمات قد أظلّت، ولحظات المنح والعطايا قد حلّت؛ بإقبال هذه العشر المباركة من شهر الفضائل والنفحات ، فهذه العشر التي حوت فضائلَ جليلةً كثيرةً ، وأجوراً كريمةً وفيرةً ؛ حريٌّ بكلِّ مسلم أن يغتنمها، وبكلِّ مؤمنٍ أن يستثمرها، أسوته في ذلك نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام الّذي كان إذا دخلت عليه العشر الأواخر، أقبل على عبادة ربِّه وشمّر، واعتزل نساءه وشدّ المئزر، وأحيا اللّيل بالصّلاة وقرأ القرآن وتدبّر، واجتهد فيها بالطّاعة ما لا يجتهد في غيرها من اللّيالي الغوابر.، وقد جاء عند النسائي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : (لا اعلم رسول الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهراً كاملاً قط غير رمضان } فعلى هذا يكون أحياء الليل المقصود به أنه يقوم أغلب الليل ، ويحتمل أنه كان يحي الليل كله .
وكان من هديه في هذه العشر أنه يوقظ أهله للصلاة كما في البخاري عن عائشة رضي الله عنها ، وهذا حرصا منه على أن يدرك أهله من فضائل ليالي هذا الشهر الكريم ، ولايقتصر على العمل لنفسه ويترك أهله في نومهم ، كما يفعل بعض الناس وهذا لاشك أنه خطأ وتقصير ظاهر . وكذلك من الأعمال التي كان يقوم بها النبي كان إذا دخلت العشرأن كان يشد المئزر كما في الصحيحين والمعنى أنه يعتزل النساء في هذه العشر وينشغل بالعبادة والطاعة .
الاعتكاف في المساجد
كما يشرع في العشر الآواخر الاعتكاف في المساجد التي تقام فيها الصلاة وقد كان هدى النبي صلى الله عليه وسلم المستمر الاعتكاف فيها حتى توفاه الله كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وكان يعتكف في هذه العشر التي تُطلب فيها ليلة القدر قطعا لانشغاله وتفريغاً للياليه وتخلياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه، فقد اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يوما.
ولعل مما يذكر من أسرار الاعتكاف أنه يجلب صفاء القلب والروح وكما هو معلوم أن مدار الأعمال على القلب كما في الحديث (آلا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه مسلم.
لا يفوِّته ذلك إلا مغبون
واعلم عزيزي القارئ إن لّيالي العشر الآواخر فضلها عظيم، و لا يزهد فيها إلاّ محروم، ولا يفوِّته ذلك إلا مغبون ، كيف لا؟! وفيها ليلة القدر وهي خيرمن ألف شهر، عبادة ثلاثة وثمانون سنة ، وعظّم سبحانه شأنها، ورفع أمرها وقدرها؛ فقال جلّ وعلا:﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ قال الزّهريّ:« سمّيت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها وفي هذه اللّيلة ابتدأ نزول القرآن ،الّذي جعله الله رحمة وهدى، وفيها يُفصل ويُقضى كلُّ أمرحكيم، ويُقدّر ما يكون في السّنّة كلِّها بإذن العزيز العليم؛ قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾والعمل الصّالح فيها خير من العمل في ألف شهر؛ قال عزّوجلّ: ﴿َليْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌمِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾؛ وتنزل الملائكة فيها ومعهم جبريل الرّوح الأمين من السّماء؛ بكلِّ خير وبركة ونعماء﴿ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ أي: بكلّ أمر قضاه وقدّره الله عزّ وجلّ، وقد قال الحسن البصريُّ :«إذا كان ليلة القدر لم تزل الملائكة تخفقُ بأجنحتها بالسّلام من الله والرّحمة من لدن صلاة المغرب إلى طلوع الفجر»؛ فهي ليلة سلام وأمان للمؤمنين من كلّ شرٍّ وسوء، ومن عذاب ربِّ العاملين؛ لكثرة من يعتق فيها من النار من العصاة المذنبين .
علامات نستدلُّ بها على ليلة
ومن هنا رغّب النّبيُّ أمّته في تحرِّيها في العشر الأواخر وحثّهم على طلبها وإصابة فضلها بالعبادة والقيام فقال: كما في الصّحيحين :«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ م نْ رَمَضَان وهي في أوتار العشر أرجى (ليلة -27- كما ذكر بعض العلماء . ويتحراها العبد في الليالي الفردية ،ليالي -21-23-25-29-إضافة إلى ليلة -27-) وذلك لقوله :(تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ) متفق عليه ، فقد حَثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد في التماس وتَحرِّي وطلب ليلة القدر بالإكثار من العمل الصالح، وهي أرجى أن تكون في الليالي الوترية من العشر الأواخر من رمضان .
كما أخبرنا النّبيّ بعلامات نستدلُّ بها على وقوعها، ومنها: أنّ ليلة القدر ليلة طيّبة معتدلة، لا حارّة ولا باردة؛ كما ثبت في (صحيح ابن خزيمة)عن ابن عبّاس رضي الله عنهماعن النّبيّ قوله في ليلة القدر لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ -أي: سهلة طيّبة لاَ حَارَّةٌ وَلاَ بَارِدَة. ومنها: أنّها ليلة مضيئة؛ يظهر فيها النّور جليًّا، كما روي عنه أنّه قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ بَلَجَةٌ؛ لا حَارَّةٌ وَلا بَارِدَةٌ، وَلا يُرْمَى فِيهَا بِنَجْمٍ».
ومن علاماتها أيضا ما ثبت في (صحيح مسلم) عنه أنّه قال: «وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لاَ شُعَاعَ لَهَا». فهذه هي علاماتها وأماراتها الثّابتة في السّنّة النّبويّة والآثار المرويّة. نسأل الله أن يرزقنا واياكم للقيام بها ويختم لنا الشهر بخير وبالقبول والعتق من إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بقلم - سعد بن جمهور السهيمي

فضائل العشر الآواخر من رمضان
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://shahdnow.sa/articles/304016/




