بِالْأَمْسِ تَحَدَّثْنَا عَنْ اَلْوَجْهِ اَلْحَسَنْ لِمَدِينَةِ أَرْلِينْغِتُونْArlington اَلْوَاقِعَةَ فِي فِرْجِينْيَا اَلْأَمْرِيكِيَّةِ، واليوم نسلّط الضوء على وجهها الآخر. المدينة الهادئة المجاورة لعاصمة القرار في العالم، واشنطن العاصمة. مدينة خضراء، أنيقة، منظمة، كأنها لوحة هندسية رُسمت بإتقان. كل شيء هناك يسير بنظام؛ البيروقراطية ترتدي ثوب الهدوء، والثراء يمرّ أمامك دون صخب. جامعات، مؤسسات، مبانٍ رسمية، شوارع نظيفة كأنها ممرات مشفى، الحدائق والملاعب فيها بعدد سكانها أو يزيد، لكن خلف هذا الهدوء المدهش، تختبئ أرلينغتون القلقة... قلق الإنسان، واغتراب الروح.
كل شيء يَبْدُو في مكانه، الحافلات دقيقة، الأرصفة واسعة، المكاتب لامعة، والابتسامات جاهزة، والحدائق العامة والمتنزهات وفيرة، لكنّ الروح غائبة. كثير من السكان لا يعرفون جيرانهم، رغم أنهم يتشاركون نفس المبنى لسنوات. عِشْتُ فيها ثلاثة أعوام ونيّف، لم تتجاوز علاقاتي من تربطني بهم رابطة المواطنة، ويعدّون على أصابع اليد الواحدة، رغم أني أعتقد جازمًا أنني شخص (اجتماعي) أملك مهارة فائقة في بناء العلاقات، وكسر جدار العزلة، لكن في (أرلينغتون) عشت في مجتمع صغير جدًا حتى كدت أن أقع في شرك الاكتئاب. العلاقات سطحية، الحوار محدود، والمشاعر مؤجلة. كل شيء مؤقت، حتى الوجوه.
رأيت في (أرلينغتون) بِأُمِّ عَيْنِي كيف يعيش إنسان في شقة أنيقة، ويتقاضى راتبًا عاليًا، ويقود سيارة فاخرة، لكنه ينهار نفسيًا لأنه لا يملك صديقًا حقيقيًا، ولا لحظة دفء صادقة. الغربة هنا ليست فقط عن الوطن، بل عن الذات. عن الحياة التي تمشي كآلة لا تتوقف.
أما من يعيش على هامش المدينة، من أصحاب الدخول المحدودة، فهؤلاء يعانون بصمت تحت وطأة نظام لا يعرف الرحمة. الإيجارات نار، والمصاريف تلتهم ما تبقى، والمساعدات الاجتماعية مشروطة بقيود بيروقراطية خانقة. الطالب المبتعث أو الموظف الجديد يُسحق بين مطرقة الغلاء وسندان العزلة.
الوجه الآخر لأرلينغتون لا تراه في الكتيبات السياحية، ولا في صور "البنتاغون" أو نصب "المارينز" الشهير. بل تراه في عيون شاحبة داخل وسائل النقل، وفي مقاهٍ تعج بأشخاص يحدّقون في شاشاتهم بصمت، وفي حدائق يجلس فيها الناس متباعدين، يتحدثون إلى هواتفهم لا إلى بعضهم، أو يرويه شخص مثلي عاش وحاول الدخول إلى أعماق الآخرين فيها.
في الليل... تبدو المدينة أكثر هدوءًا من اللازم. وكأنها مدينة أشباح مَرْتَبَةٌ. لا تسمع سوى صوت مكيف، أو صافرة قطار، أو رجل مسن خرج ليمكن (كلبه) من تلبية نداء الطبيعة. لا ضحك من القلب، ولا صراخ من الألم. الكل يبدو متماسكًا من الخارج، لكنه متشقق من الداخل.
(أرلينغتون) لَيْسَتْ مَدِينَةَ عُنْفٍ أَوْ فَوْضًى ، لكنها مدينة الغربة الصامتة. غربة لا تُكتب عنها الصحف، لأنها لا تسفك دمًا، بل تستنزف الأرواح بهدوء. هناك، يعلو صوت النظام، ويصمت الإنسان.
هذه المدينة عندما أقمت فيها فترة ليست بقصيرة تَيَقَّنَتُ أنها تعلّمك أن النظام لا يعني بالضرورة الحياة، وأن الهدوء لا يساوي السعادة، وأن القرب من مراكز القرار لا يمنحك دفء الانتماء. أرلينغتون مدينة الحكايات المكتومة، والنهايات المؤجلة، والمشاعر التي لا تجد من يحتضنها. برأيي، هي الفناء الخلفي لعاصمة السياسة، حتى حضارتها ليست أصلية، بل تقطر من المدينة الكبرى المجاورة، وعندما تبحث عن خفايا تاريخها التليد تجده يتسلسل حتى يُربط بواشنطن العاصمة كأنها ليست مستقلة.
إنها مدينة تائهة، تبحث عن ذاتها في انعكاسات النوافذ، وفي صدى الخطى الغريبة.
هذا هو الوجه الآخر للمدينة الأنيقة (أرلينغتون). ما عرفته عنها كان أهدأ... وأوجع، وما خفي كان أعظم. هذا علمي وسلامتكم.
ـــــــــــــــــــ
اِنْتَظَرُونِي الأسبوع القادم للحديث عن وجهين آخرين... لمكان أو زمان أو عادة من عادات الناس.