العلاقات بين الناس تتنوع وتختلف، فقد تجمعهم مصالح عمل، أو مهام رسمية، أو لقاءات عابرة في مناسبات أو مواقف. بعض العلاقات تُبنى على حاجة، وبعضها على مصلحة، وأخرى على منصب. لكنها – ومهما طال أمدها أو كبر شأنها – تظل مؤقتة. وحدها علاقة الأخوّة تبقى، لأنها تُبنى على المودة والصدق والنية الطيبة، لا على المصلحة والانتفاع.
من يملك مسؤولية، أو موقعًا، أو سلطة – سواء كان مسؤولًا أو رئيسًا أو موظفًا – عليه أن يُدرك أن المنصب زائل، والمهام مؤقتة، والوجاهة لا تدوم. أما الناس، فهم الباقون. وأجمل ما يُحفظ بعد غياب المنصب، هو الاحترام الذي زرعته، والمحبة التي منحتها، والقلوب التي بقيت تذكرك بخير.
في الحركة الكشفية، نجد مثالًا حيًّا لهذا المعنى العظيم. فالقائد الكشفي، والرائد الكشفي، والكشاف في أي بلد، يجد له إخوة في كل مكان، يجد صدرًا رحبًا وبيتًا مفتوحًا، فقط لأنه حمل في قلبه روح الأخوّة الصادقة. لم تكن علاقته بالآخرين مبنية على منفعة، بل على المحبة الخالصة والانتماء لرسالة إنسانية.
الكشافة ربّتنا على الأخوّة الحقيقية. ولذلك نرى أن المنتمين للحركة الكشفية يتقابلون بعد سنين، وقد تغيّرت الظروف، وانتهت المهام، لكن لا تزال قلوبهم متصلة، ولا تزال الأيدي تُصافح بحبّ صادق.
لقد عرفتُ في عالم الكشفية علاقاتٍ تجاوز عمرها نصف قرن، ولا تزال حيّة نابضة بالمحبة والوفاء. لا أحد من الطرفين يملك مصلحة على الآخر، ولا تُحرّكهم مناصب ولا مصالح. إنها قوة داخلية صادقة تشدّهم لبعضهم البعض، كأن بين قلوبهم رباطًا خفيًا من النُبل والذكريات الطيبة والمواقف الأصيلة.
تلك العلاقات لم تُبنَ على الورق، ولا حُكمت ببروتوكول، بل كانت وليدة مخيم، أو نشاط، أو لحظة تعاون صادق. واستمرّت لأنها صادفت قلوبًا وفية، ونفوسًا لا تنسى المعروف، وعقولًا أدركت أن الإنسان أغلى من المناصب، وأن الأخوّة أثمن من الإنجازات.
دعونا نترك التشاحن، ونتجنّب التباعد، ونترفّع عن الحسابات الضيّقة. فلن يبقى لنا من هذه الدنيا سوى ما زرعنا من أثر طيّب، وما قدمناه من سعيٍ مخلص. قال الله تعالى: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى".
كم من زميل أو صديق أو رفيق درب، انتهت بينه بين الاخرين علاقة العمل، لكن بقيت بينهم المحبة لأن أساس العلاقة كان أخويًا، لا وظيفيًا. هذا ما نحتاج أن نغرسه اليوم، خصوصًا في صفوف المنتمين للحركة الكشفية، فهم نموذج لعلاقات تتجاوز البروتوكولات والمهام ، وعلاقة الرواد العرب في الوطن العربي الكبير هو تأكيد على ذلك فهم عاشوا الكشفية من الطفولة والشباب وحتى الكهول ومازالت علاقاتهم أنموذج يحتذى به
ومن يحمل الأمانة في هذه الدنيا – أيا كان نوعها – فعليه أن يعي أن ذلك امتحان، لا تشريف. من يملك سلطة، أو منصبًا أو قلمًا أو صوتًا، فلْيَجعل همه أن يُسخّر ذلك كله للخير والحق وخدمة الناس. فالخير وحده هو الذي يكسب العلاقات الطيبة، ويزرع المحبة في القلوب، ويُبقي للإنسان ذكراه الطيّبة بعد رحيله.
في كل الأحوال، الدنيا زائلة، لأنها ليست دار بقاء، بل دار عبور. تلك سنة الله في خلقه، أن يأتي الناس إلى الدنيا، يعيشوا على ظهرها، ثم يرحلوا عنها. الدنيا ممر لا مقر، وطريق لا نهاية له إلا بالآخرة.
من وعى هذا المعنى، خفّ تعلقه بالمناصب، وخفّت خصوماته مع الناس، وسَعَى لأن يُخلّف أثرًا طيبًا لا صراعًا ولا حقدًا. فكل ما نختلف عليه زائل، وكل ما نتمسك به من جاه أو مال أو مكانة، مآله إلى التراب. وما يبقى هو ما زرعناه في قلوب الآخرين من خير ، هذا علمي وسلامتكم





