مع مغيب شمس يوم امس الجمعة العاشر من ذي الحجة يوم النحر، يبدأ الحجاج مرحلة جديدة من رحلتهم الإيمانية، إنها أيام التشريق، التي تمتد من اليوم الحادي عشر إلى الثالث عشر من شهر ذي الحجة. ثلاثة أيام عظيمة، يُكمل فيها الحجاج نسكهم، وتطيب فيها الأرواح بالذكر، وترتفع الأكف بالدعاء،وسُمّيت أيام التشريق بهذا الاسم لأن الحجاج كانوا يُشرّقون اللحم فيها، أي يقطعونه ويعرضونه لأشعة الشمس ليجفّ، ويحفظوه من التلف بعد الذبح في يوم النحر (عيد الأضحى) ، وقد قيل أيضًا إن التسمية تعود إلى أن ذبح الأضاحي لا يكون إلا بعد شروق الشمس.وقال عنها نبي الامة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله»رواه مسلم.
في منى، أكبر مدينة خيام في العالم، تتحول الخيام البيضاء إلى سطور من نور، تسكنها قلوب خاشعة، وأرواح متضرعة، وملايين الألسن تلهج بالذكر في تناغم مهيب. لا تسمع فيها إلا التكبير والتلبية والدعاء. المكان يفيض طمأنينة، وكأن السماء أقرب، والرحمة تظلل الجميع.
يقضي الحجاج أيام التشريق بين المبيت، ورمي الجمرات، والتكبير، والتضرع لله. كل يوم، يرمي الحاج الجمرات الثلاث: الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى، بسبع حصيات، مكبرًا مع كل رمية، مستشعرًا أنه يرجم الشيطان، ويثبت العزم على مواصلة الطاعة.
ليست هذه الأيام مجرد وقت بين مناسك، بل هي أيام ذكر وشكر كما وصفها النبي ﷺ بقوله: " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله".وهي أيضًا ما سماها القرآن الكريم بـ"الأيام المعدودات"، في قوله تعالى:"واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى..." البقرة: 203
في منى، تسمع أصوات الحجاج بالتكبير تملأ الأرجاء:"الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد."
مشهد مهيب تتوحد فيه القلوب، وتذوب فيه الفوارق، ويشعر فيه كل حاج بأنه جزء من أمة واحدة، يربطها الإيمان، ويجمعها الرجاء في رحمة الله.
ينتظر بعض الحجاج حتى اليوم الثالث عشر، فيتأخرون في المغادرة، اقتداءً بسنة النبي ﷺ، ويواصلون الذكر والرمي والمبيت في منى. بينما يتعجل آخرون، فيغادرون بعد اليوم الثاني عشر، وكلٌّ له رخصته الشرعية.
وهكذا، تمضي أيام التشريق بخفة وسكينة، لكنها تترك أثرًا عميقًا في النفوس. فالحج لم يكن مجرد شعائر، بل مدرسة إيمانية، اختبر فيها الحاج صبره، وخشوعه، وصدقه مع الله.
في منى... مدينة الخيام البيضاء، يختم الحاج نسكه، لكن الرحلة إلى الله لا تنتهي. تبقى الروح معلقة بجبل عرفات، ودموع الموقف، وأدعية الجمرات، تروي قصة حجٍ لا يُنسى.





