في دروب الحياة، لا يظلم القلب بشيء كما يظلم حين تُطْفَأ فيه أنوار السخاء، وتُغْلَق فيه نوافذ العطاء. وحين نبحث عن جذور هذا الظلام، نجد كلمتين طالما خُلط بينهما: البخل والشُّح. فهل هما وجهان لعملة واحدة؟ أم أن في أعماقهما تمايزًا يكشف لنا خفايا النفس الإنسانية؟
تأملات في اللغة والمعنى
في اللغة، يُعرف الشُّح بأنه البخل مع حرص شديد. وليس كل بخيل شحيحًا، لكن كل شحيحٍ بخيل، وزيادة. يقول الإمام النووي: “الشُّحُّ: هو البخل بأداء الحقوق، والحرص على ما ليس له”. أما البخل، فيكاد يكون مجرد امتناع عن العطاء، دون ذلك الاضطرام الداخلي الذي يرافق الشُّح.
فالبخيل يمنع ما في يده، والشحيح تتلهف عينه إلى ما في يد غيره.
قال ابن عمر رضي الله عنه: “ليس الشحيح أن يمنع الرجل ماله، ولكنه البخل. وإنه لشرٌّ، إنما الشُّحُّ أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له”. وكأن البخل قيدٌ في اليد، بينما الشُّح قيد في القلب والعين معًا.
الشح.. مرض القلوب
يقول الله تعالى:
﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]
تأمل هذا الوصف الرباني الدقيق: لم يقل “من يُوقَ البخل”، بل قال “شُحَّ نَفْسِهِ”، كأنما الشُّح داءٌ يتغلغل في أعماق النفس، لا في ظاهر التصرفات فقط. هو ليس مجرد امتناع، بل جشع واستحواذ، وتعلق مرضي بالمال والمتاع. ولهذا قال ابن القيم:
“الشُّحُّ هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله”.
كلمات تنبض بالحكمة، وتكشف أن الشُّح هو أصل البخل، بل هو جذره الذي إذا لم يُقلَع، أورق بُخلاً وجحودًا، وامتدت أغصانه ظلمًا وظلمات.
التحذير النبوي..
عندما نقرأ قول النبي ﷺ:
“اتقوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلُّوا محارمهم” [رواه مسلم]
ندرك أن الشُّح ليس مجرد رذيلة أخلاقية، بل قوة مدمرة إذا استقرت في النفس، قادت صاحبها إلى الطمع، ثم إلى الظلم، وربما إلى سفك الدماء. ولذلك، لم يجمع النبي ﷺ بين الشح والإيمان في قلب واحد، فقال:
“لا يجتمع شُّحٌ وإيمانٌ في قلب رجل مسلم أبدًا” [رواه النسائي]
كأن الإيمان نور، والشُّحُّ ظلمة، والنور لا يساكن الظلام.
ومضة ختامية: درب الفلاح
ليست النجاة في كف الأيدي، بل في صفاء القلوب. والبخل، وإن كان مذمومًا، فالشُّح أدهى وأمر. ومن أراد الفلاح، فليبدأ بنزع جذور الشُّح من قلبه، فإن الوقاية من الشُّح لا تصنع كريمًا فقط، بل تُنبت فالحًا، ناجحًا، مفلحًا، كما وعد الرحمن:
﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
فهل نبدأ الرحلة؟ أم نظل أسرى شُحٍّ يحبس أرواحنا عن العطاء، ويُقيِّد خطواتنا عن السُّمو





