فقد الوطن قبل أسابيع رجل الأعمال المعروف ورجل الأفعال المشهودة الشيخ الفاضل عبد الله بن دريويش الشعابي الحارثي -رحمه الله- حيث توفي عن عمر ناهز الـ (٩٦) عامًا، كانت حافلة بالإنجازات والمواقف والعطاءات، متنقلاً كالنحلة بين الأزهار لإنتاج العسل؛ فتراه ما بين التجارة العقارية والأعمال الخيرية المتمثلة في مجالس الصلح، وفك الرقاب والشفاعة الحسنة للناس، وقضاء حوائجهم وغيرها من الأعمال المباركة، لقد ذهب الرجل وبقي الأثر، وفي فقده يتمثل قول الشاعر:
إذا ما مات ذو خُلقٍ وتقوى
فقد ثُلِمتْ من الإسلامِ ثُلمة.
ولا شك أنَّ لفقدهِ وفقدِ أمثاله من الرجال الأوفياء المخلصين في هذا الوطن العظيم تأثيرًا كبيرًا يحدث فراغًا ونقصًا في المجتمع يصعب تعويضه، لقيامه بأدوار ومسؤوليات كثيرة وخدمات جليلة تنم عن مكارم الأخلاق وعظيم السجايا، يقول الشاعر:
وأكرمُ النَّاسِ ما بين الورى رجلٌ
تُقْضَى على يدهِ للنَّاسِ حاجاتُ.
ولكنَّ عزاؤنا في فقده أن المجتمع السعودي المتلاحم فيه الكثير من الخير والبركة، وتوسمنا في أبناء الفقيد كل الخير ليحذوا حذوه ويسيروا على خطاه.
ولعلنا نستشهد في ذلك بقول الشاعر:
إذا مات منّا سيدٌ قام سيدٌ
نظيرٌ له يُغني غناه ويخلفُ.
وعندما أتحدث عن هذه الشخصية الفذَّة والرمز الوطني أو أكتب عنه فما هو إلا نتيجة القرب منه بحكم أني كنت أحضر بعض مجالسه ومناسباته بدعوة خاصة منه، وكل ما قابلته شعر تُ بمحبةٍ صادقةٍ وتقديرٍ واحترامٍ كبير، وليس ذلك بمستغربٍ فهي عادةُ هذا الرجل الشهم الكريم، ولا شك أنها محبةً متبادلةً بيننا، بل أني أشعر من قلبي بأنه والدٌ ومحبٌ للجميع، وهذا ديدنه مع محبيه ومعارفه وزواره.
وليس ذلك فحسب بل أننا عرفنا أبا محمد مواطنًا مخلصًا لوطنه، مُحبًا لقيادتنا وولاة أمرنا، كريمًا باذلاً معطاءً، صاحب أيادٍ بيضاء، محبًا للخير، ذو خُلقٍ رفيعٍ وأدبٍ جمٍّ، يتميز بالصفاءِ والنقاءِ والصلاحِ والإصلاح، آراؤه سديدة، وأشعاره جزلة، وكلماته صادقة، وأعماله مجيدة، وسريرته سليمة، وسيرته عطرة، وتاريخه مُشرِّف، وصولاً للناس بكافة مستوياتهم، له إسهامات كثيرة؛ منها دعم حلقات تحفيظ القرآن الكريم ودور الأيتام، ودعم المشاريع التنموية في محافظة ميسان مثل مهرجان العسل، والزواج الجماعي وغيرها مما لا يتسع المقام لعدِّه.
ومن سمات فقيدنا التواضع، حيث أنَّ هناك العديد من المواقف الشاهدة على تواضعه شاهدتها بعيني -كما شاهدها غيري- ومنها تجنبه الصعود إلى المنصات أثناء المناسبات وعدم حرصه على ذلك، بل أنه يجلس في الأماكن العادية تواضعًا منه.
ومن المآثر الملفتة للانتباه إذا ذهبتْ إلى الطائف تجد قصره الشامخ في القديرة، وتجد في الشهداء الشمالية مكانًا يُعرفُ بـ (طلعة ابن دريويش) وبها منزله العامر والمسجد الذي أسسه وعُرِف باسمه، وهي من المعالم البارزة المعروفة في الطائف، وإذا ذهبت إلى محافظة ميسان تجد قصره المشيد بالحدب ومسجده ومزرعته، وفي قلب ميسان بالشعاعيب تجد قصره العامر ومسجده المسمى بـ (جامع الأنصار )، وغيره العديد من المساجد التي عمَّرها أو ساهم في بنائها في كافة أنحاء المملكة.
كما شهد منزله العامر استقبالاتٍ لبعض أصحاب السمو الأمراء، والمعالي الوزراء، والمسؤولين والأعيان والشيوخ والرموز من دون تعالٍ منه أو منّة، مما يعكس نقاء معدنه، وكرم طبعه، وطيب نفسه وتواضعه الجم.
كانت للفقيد مجالس علم يُدعى إليها المثقفون والأُدباء والشعراءُ والأعيان، وتتناقل فيها المعارف والشعر والأدب والحكمة والحديث، وقد سمعت منه يومًا في مجلسه أن أكل الذهب الخالص علاجًا لطرد السموم؛ وقد ورد ذلك في بعض كتب الطب، وكذلك وضع قطع من معدن الفضة في إناء من الفخار مع الماء يساعد في علاج الأمعاء.
ومما أذكر من الطرائف تَحدُثُ أحد الحضور في مجلسه عن فوائد بيض السمك (الكافيار) فقال الشيخ: "الذي ما ينفعه بيضه ما يستفيد من بيض الآخرين".
كما ذكر لي -رحمه الله- أنه قد استقبل في منزله رجلًا من خصومه وهو لا يعلم عنه، وتناول الرجل معه طعام العشاء، ونام عنده، وأفطر معه صباحًا، ثم يذهب الرجل إلى الجهات الحكومية ويقدم دعاوى ويتابع بعض الشكاوى ضد الشيخ، ويأتي ظهرًا ليتناول معه طعام الغداء، وهكذا... ولم يسأله الشيخ أو يتغير في طريقة استقباله أو إكرامه؛ إلى أن صارحه الرجل بما كان منه قائلاً: "أتعلم إلى أين أذهب؟ "، فقال له الشيخ: " لا أعلم ولا أريد أن أعلم"، فبلَّغهُ الرجل بما كان منه، فكان ردُّ الشيخ له: "الجهات المعنية تفصل بيننا وأنت الآن في ضيافتي"، فلم يتغير الشيخ في استقباله أو إكرامه، وهذا يدل على نقاءِ سريرته، وصفاءِ قلبه، وسعة صدره.
وبعد هذه الرحلة الحافلة بالمآثر والأفعال والإنجاز ات يغادر الشيخ عبدالله بن دريويش الدنيا إلى دار الحق، لتودعه محافظة ميسان مسقط رأسه، وتودعه الطائف التي عاش فيها، ومكة المكرمة التي أحبها، والرياض العاصمة، وكل الأماكن التي مرَّ بها أو كان له بصماتٍ أو مآثر خالدة تبقيه حياً بيننا، فطبت حيًا وميتًا أبا محمد.
قَد مَاتَ قومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم
وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النّاسِ أَموَاتُ.
نسأل الله أن يكون كل ما قدم من أعمال الخير والبرِّ شاهدة له لا عليه وأن يثقل بها موازين حسناته، وأن يجعل الجنة داره ومثواه.
إنَّ القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنَّا على فراقك يا أبا محمدٍ لمحزونون.






