الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:
في لحظةٍ من لحظات الفخر والامتنان، يغمرني شعورٌ عميق بالسعادة وأنا أرى أحد طلابي — بندر — متوَّجًا بالجلال والجمال معًا. أتذكّره يوم اكتشفت موهبته في حصةٍ من حصص اللغة العربية، حين كان في الصف الخامس الابتدائي، في أيام التعليم (عن بعد) إبّان جائحة كورونا. كنت قد وضعت نصًا قرائيًا وطلبت من الطلاب قراءته، فوقع الاختيار على بندر. قرأ النص بصوتٍ واضحٍ ولفظٍ سليم، ثم سألته: ماذا فهمت من هذا النص؟
فأجابني بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ مدهشة، لا تكاد تصدر عن طفلٍ في مثل سنّه. عندها أدركت أن بين يديَّ موهبةً لغوية بديعة، وأن هذا الفتى يملك لسانًا فصيحًا وقلبًا نابضًا بالعربية، ومنذ تلك اللحظة، جعلت من مهمتي صقل هذه الموهبة وتغذيتها، فكنت لا أتحدث مع الطلاب إلا بالفصحى، حتى غدت لغتهم اليومية في الصف لغةَ بيانٍ وجمالٍ.
ومع مرور الأيام، أقبل موسم تحدي القراءة العربي، فشجعت بندرًا وجمعًا من زملائه على المشاركة، وكانت تلك أولى خطواتهم نحو التميز. شارك بندر مع زملائه (محمد بالعلا، وعبد الله الراضي، وعبد العزيز الطويرقي، ويحيى صميلي)، وتأهلوا جميعًا على مستوى محافظة جدة، ليكمل بندر المنافسة ويحصل على المركز السادس على مستوى المحافظة.
وفي الموسم التالي، عاد بندر ليشارك من جديد، وكان بصحبته (محمد بالعلا، ومرتضى فدعق، ويوسف العوفي، وخالد الجهني) وتأهلوا جميعا مجتازين المرحلة الأولى على مستوى المحافظة، واستطاع بندر أن يحقق المركز الثالث على مستوى المحافظة، مُظهِرًا تحسنًا عن عامه السابق، وتمكنًا لغويًا راقيًا وثقةً في الإلقاء أبهرت السامعين. ولم يتوقف عند هذا الحد، -بل واصل مسيرته حين انتقل إلى مدرسة الفيصلية للموهوبين-، فشارك في نسختين لاحقتين من المسابقة، ليحصد في الموسم التاسع من المسابقة، المركز الأول على محافظة جدة، والمركز التاسع على مستوى المملكة — ليكون ضمن العشرة المسافربن إلى دبي لحضور المنافسات الختامية. إنجازٌ شرّف به معلميه ومدرسته والوطن معًا.
وما جعلني أسرد مسيرة بندر وزملاءه، أن النجاح لم يكن وليدَ يوم وليلة، بل كان نتيجة إيمان صادق من معلمه، وعمل دؤوب، ومتابعة حثيثة من الوالدين، لأنّ وراء كل موهبةٍ نادرة معلمٌ فَطِن ووالدين أدركوا أهمية الموهبة، فصبروا على رعايتها حتى أينعت.
فيا أيها المعلم، كم من موهبةٍ دفينةٍ بين طلابك تنتظر نظرتك الحصيفة، ولمستك المُلهمة! إن لم تكن بصيرًا باكتشافها، حكيماً في توجيهها، فلن تُثمر. واعلم أن التدريس ليس مجرد نقل معرفةٍ تزول بمرور الأيام، بل هو أثرٌ خالدٌ في نفوس طلابك.
فقد ينسى الطالب القاعدة أو المعلومة، لكنه لن ينسى من علّمه كيف يفكر، كيف يتحدث، كيف يُعبّر.
وما موهبة بندر إلا نعمة تستحق الشكر، وشهادةٌ على أن الأثر الحقيقي في التعليم هو ما يبقى بعد أن تُنسى الدروس.
إنني لا أذكر بندرًا وزملاءه هنا فخراً بنفسي، -حاشا لله-، ولكن اعترافًا بفضل الله، وشكرًا له على أن جعل في تدريسي أثرًا يُرى في طلابٍ أمثال بندر وغيرهم، وما ذاك إلا توفيق الله. قال الشاعر:
إذا لم يكنْ عونٌ من الله للفتى .. فأول ما يجني عليه اجتهاده.
لهذا أقول: أيها المعلم اجعل هدفك أن يكون لتدريسك أثرٌ ممتد، أن تزرع في طلابك شغف الكلمة، وحب الإبداع، ليكونوا كُتّابًا، وأدباء، وشعراء، وخطباء، ...إلخ.
فالمعرفة قد تُكتسب من كتابٍ أو شاشة، أمّا أثر المعلم فلا يُنال إلا من روحٍ صادقةٍ أخلصت في البذل والعطاء.
وختامًا، ضع — أيها المعلم — نصب عينيك هذا البيت الشعري:
وكن رجلًا إن أتوا بعده.. يقولون مرّ وهذا الأثر.





