الأقدار ليست غموضًا يخيفنا، ولا سجنًا يقيّدنا، بل هي نسيجٌ دقيق من الحكمة الإلهية التي تُدار بها شؤون هذا الكون. إن الإيمان بالقدر ليس استسلامًا، بل هو طمأنينة القلب حين يدرك أن كل ما يقع في حياته، مهما بدا مؤلمًا أو مبهجًا، إنما هو في موضعه الصحيح من لوحة الحياة التي رسمها الله بحكمةٍ وعلمٍ مطلق.
منذ الأزل، كُتبت المقادير في اللوح المحفوظ، قبل أن تُخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما أخبرنا النبي ﷺ. وهذه الكتابة ليست نفيًا لاختيار الإنسان، بل تأكيد على أن الله يعلم ما نختاره قبل أن نختاره، فهو علمٌ سابق، لا إكراه فيه. نحن نسير في دروب الحياة بخطواتنا الحرة، لكننا نُدرك في النهاية أن كل طريقٍ سلكناه كان يحمل في طياته قدَرًا أوسع من نيتنا، وأعمق من تخطيطنا.
وليس القدر قيدًا يحول دون العمل، بل هو دافعٌ للعمل؛ لأننا نعلم أن الأقدار تُغيّرها الأقدار. فالدعاء من القدر، والطاعة من القدر، والتوبة من القدر. كم من إنسانٍ كتب الله له خيرًا عظيمًا لأنه رفع يديه في لحظة صدق وقال: يا رب! فكان دعاؤه سببًا في تبدّل حاله، وفتح بابٍ ما كان ليُفتح لولا تلك اللحظة.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. إنها كلمة تختصر فلسفة الحياة كلها. فليس الفرار من الطاعون جبنًا، بل هو امتثال لأمر الله بالابتعاد عن مواطن الهلاك، أي أننا نفرّ من قدرٍ كتبه الله، إلى قدرٍ آخر اختاره الله لنا، وكلاهما في ميزان الحكمة الإلهية سواء.
حين يؤمن الإنسان بالقدر، يسكن قلبه السلام.
لن يُرهقه الغد، لأن الغد في علم الله، ولن يحزن على الماضي، لأن ما مضى كان جزءًا من رحلته نحو النضج. سيعمل بجد، ويسعى بقلبٍ مطمئن، مؤمنًا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وأن كل تأخيرٍ هو تدبير، وكل فقدٍ هو بداية، وكل امتحانٍ يحمل بين طياته عطاءً خفيًا.
فما أجمل أن نمشي في دروب الحياة بثقةٍ ورضا، نؤمن أن ما كُتب لنا لن يفوتنا، وما فَاتنا لم يكن لنا، وأن وراء كل قدرٍ – مهما بدا صعبًا – رحمةٌ تنتظر أن تُكشف
الرضا بما قسم الله مع بذل الجهد والسعي لتحقيق الأهداف، .





