حينما يُفارق والدك الدنيا، لا يرحل وحده، بل يأخذ معه فصولا من التاريخ الصامت الذي لا يُكتب في الكتب، تمضي روحه كنسمة من الحنين، تاركة خلفها فراغا لا يُملأ، لأن وجود الأب لا يُعوّض بالذكريات، بل يُستعاد بالدمع والابتسامة معا.
كان الراحل واحدا من أولئك الذين وهبوا حياتهم للعمل بصمت نادر لا يعرف الادعاء، أربعون عاما من العطاء في مشروع الجزيرة جعلت منه شاهدا على زمن كانت فيه الأيدي أكثر إخلاصا من الشعارات، وكانت الأرض تُقاس بعرق الرجال لا بخططهم؛ وفي أيام شبابه الأولى، كان يحمل حقيبته البسيطة وينتقل من ترعة إلى أخرى، من المناقل إلى فروع القنوات البعيدة، بصحبة المهندس الخواجة، يرسمان خطوط الماء التي ستُسقي آلاف الأفدنة، لم يكن العمل مجرد مهنة عنده، بل عبادةٌ تمارس بروح نقية تؤمن أن قيمة الإنسان تُقاس بما يقدمه للناس، لا بما يملكه.
وفي سنوات البناء الأولى، كان أحد الذين أسهموا في تخطيط وبناء مدينة ٢٤ عبود، التي تحوّلت فيما بعد إلى ٢٤ القرشي؛ كانت المدينة آنذاك صفحة بيضاء تكتب عليها أحلام جيل آمن بالوطن وصدّق أنّ الخير يمكن أن ينبت حيث تُرويه الأيادي الصادقة، شارك مع زملائه في تخطيط الطرق، وبناء البيوت الأولى، ومدّ خطوط الماء، حتى بدت القرشي كواحة جديدة في قلب الجزيرة.
من أعظم ما في تلك مدينة القرشي لم يكن عمرانها، بل روحها، فقد كانت القرشي مجتمعا مثاليا من التعاون والمودّة، اجتمعت فيه قبائل السودان المختلفة من شمال وجنوب وشرق وغرب، فتداخلت الأنساب وتآلفت القلوب. عاش الناس فيها بقلب صاف لا يعرف الأحقاد ولا المسافات، وكانوا يتقاسمون الأفراح كما يتقاسمون اللقمة، لم يكن الغريب غريبا، ولم يكن الفقر عيبا، لأن القيم كانت أغنى من المال، ولأن الجيرة كانت عهدا يُحترم لا يُتجاوز، في هذا المناخ الإنساني تشكّل وعي الأب، وفي هذه البيئة تربّت أسرته، فتعلموا منه ومن مجتمعهم أنّ الكرامة في البساطة، وأنّ العظمة في الإخلاص.
عرفه أهل القرشي بالصدق والطيبة والأخوّة الصافية، فقد كان بيته بيت الجميع، وصوته لا يُسمع إلا في الخير، إذا سمع أن أحدا يمرّ بضيق، لم يكن غنيا بماله، بل بصفاء قلبه، وكان يرى أن منحة الله الكبرى هي القدرة على العطاء، هكذا أحبّته المدينة كما أحبّها، وصار جزءا من نسيجها، مثل شجرة قديمة ظلّها لا يُفارق الطريق.
وحين بلغ سنّ التقاعد، غادر العمل لكنه لم يغادر الحياة، كان يجلس أمام بيته مع الغروب، يسترجع بصمت ما زرعه من ذكريات في الحقول، وما بناه من علاقات في المدينة التي احتضنته؛ كان يقول دائما: " القرشي ليست مكانا، إنّها قلب كبير يسكن فيه كل سوداني عرف معنى التعاون"؛ وقد ظلّت هذه العبارة شعارا غير مكتوب لأبناء جيله، الذين رحل كثيرٌ منهم كما رحل هو، تاركين وراءهم إرثا من النقاء الإنساني لا يُقدّر بثمن.
ثم جاء زمن الحرب، واهتزّت المدن كما تهتزّ الأرواح، ثم عاد من الخرطوم إلى القرشي، كما يعود الطائر إلى عشه الأول، جلس بين الناس الذين أحبهم، يروي لهم أخبار الخرطوم ويستعيد معهم حكايات الماضي الجميل، حين كانت البلاد أكثر بساطة والقلوب أكثر طمأنينة.
ومع مرور الأيام، عادت به الحياة إلى الخرطوم مرة أخرى، كأنّ القدر أراد له أن يُكمل دائرته الأخيرة هناك أصابه المرض، فدخل مستشفى علياء بأم درمان، حيث أمضى ثمانية أيام على سرير أبيض يشبه نقاء روحه، لم يكن كثير الكلامج، لكن كل نظرة منه كانت تقول ما لا يُقال، فقد كان أبناؤه من حوله، وملامحه مطمئنة، كأنّما يتهيأ للقاء كان ينتظره بسلام، وفي صباحٍ هادئ، خرجت روحه كما تخرج النسمة في الفجر، بلا ضجيجٍ ولا ألم، تاركا خلفه صمتا ثقيلا، وطمأنينة تشبه الرضا بعد تمام الرسالة.
شيّعه الأهل والأصدقاء من المستشفى إلى مقابر حمد النيل، حيث رُفع الدعاء وذُرفت الدموع بحرارة لا يطفئها إلا اليقين، فقد كانت أم درمان يومها أكثر سكونا من المعتاد، كأنّها تنصت لخطواته الأخيرة، وُوري الجسد الطاهر التراب، وبقي الأثر يسري في القلوب.
لقد كان الراحل واحدا من عشرات الرجال الذين سكنوا القرشي ثم غادروها بعد التقاعد، أولئك الذين حملوا على أكتافهم تاريخ المدينة وروحها، لم يترك وراءه مالا كثيرا، لكنه ترك إرثا من القيم، وأثرا من الصدق، وسيرةً تُروى كلما تحدّث الناس عن جيل صنع بساطته مجد السودان الحقيقي.
رحل الجسد، لكن الروح باقيةٌ في الأرض التي أحبها، في كل موسم من مواسم الحصاد، كأن صدى صوته يعود من بعيد يقول: "ازرعوا الخير، فإن الله لا يضيع عمل الصادقين"؛ وفي ملامح القرشي اليوم، وفي وجوه أهلها، وفي ذكريات الحقول، ما يزال حضوره نديّا كالمطر، وسيرته عطرةٌ كتراب الجزيرة بعد المطر.
سلامٌ عليه يوم عمّر الأرض، ويوم عاد إلى ترابها، وسلامٌ على جيله الذي غرس ولم ينتظر جزاء، وسلامٌ على القرشي المدينة التي أنجبت رجالا يشبهون الوطن في نقائه واتساع قلبه.





