حين يترجّل فارسٌ من ميادين العمل الكشفي، لا يكون ذلك خفوتًا لضوءٍ اعتدنا وهجه، بل انتقالًا إلى مرحلة جديدة يبقى فيها أثره حاضرًا، ودروسه نابضة، وصوته محفورًا في ذاكرة كل من عاش التجربة تحت قيادته، وهذا ما حدث مع الدكتور عبدالله الطريجي، وقد سلّم الراية لمن بعده، تاركًا إرثًا يصعب تجاوزه وجهدًا استثنائيًا يستحق التسجيل في صفحات التاريخ.
لم يكن (الطريجي) رئيسًا للجنة الكشفية العربية فحسب؛ بل كان حالةً قيادية نادرة في بلاده والخليج العربي والوطن العربي، ورجلًا صنع منعطفًا فارقًا في مسيرة العمل الكشفي العربي.
فمنذ توليه المسؤولية، اختار أن يكون حاضرًا في الميدان، قريبًا من الوحدات والقيادات والشباب، مؤمنًا بأن الكشافة ليست منصبًا يُمارَس من خلف مكتب، بل رسالة تُعاش على الأرض.
لم يعتمد (الطريجي) على الأساليب التقليدية، بل فتح أبواب التطوير، ورسم مسارات جديدة للعمل، وأعاد تنظيم البرامج والأنشطة على أسس مهنية تتسق مع متطلبات العصر، فكانت بصمته واضحة في كل تفصيل؛ في التخطيط، وفي المتابعة، وفي روح المبادرة، وفي النهضة التي شهدتها اللجنة خلال سنوات قيادته.
نقل (الطريجي) النشاط الكشفي العربي إلى منعطف مهم في كل المواقع التي يتولى قيادتها، ولم يكن هذا مجرد تحسين عابر، بل تغييرًا جوهريًا في منهج التفكير والعمل، مما جعل اللجنة أكثر فاعلية، وأوسع حضورًا، وأقوى تأثيرًا في المشهد الكشفي العربي.
ونحن— معشر رواد الكشافة والمرشدات — في الوطن العربي الكبير نفتخر بك أيّما فخر يا (د. عبدالله). جهودك هنا وهناك، وفي كل موقع توليت فيه مسؤولية، شاهدة عليك ، أعمالك غير المعلنة ضعف ما أُعلن منها، وعطاؤك الهادئ كان دائمًا أبلغ من الضجيج.
أما على المستوى الشخصي، (فأنا) حظيتُ بلقاءٍ منفرد معه؛ فوجدته رجلًا مُلهِمًا في عطائه، أنيقًا في قوله، سديدًا في تصرفه… قائدًا يعرف متى يتكلم، ومتى يعمل، ومتى يترك الأثر دون أن يطلب الشكر ، ذات مرة هاتفته بامر خاص فكان ردة انيقا ولن انساه ابدا
رحيل (الطريجي) عن كرسي رئاسة اللجنة الكشفية العربية ليس مغادرة، بل استراحة مقاتل أنهكه العطاء الطويل، ترك موقعه بحكم اللوائح والانظمة ، لكنه لا يزال يحتفظ بجمر الشغف تحت الرماد ، إنه انتقالٌ يليق بالفرسان الذين يتركون مواقعهم شامخي الروح، بعد أن قدّموا ما يليق بالمهمة، وأتمّوا الأمانة.
شكرًا (د. عبدالله)، شكرًا لسنواتٍ حملتَ فيها الهمّ الكشفي فوق كتفيك، ودفعتَ فيها عجلة اللجنة إلى الأمام بإصرار لا يعرف الكلل، شكرًا لروحك القيادية، وللغرس الذي تركته في قلوب المئات من القادة والرواد والناشئة.
وشكرًا لأنك كنت القدوة… وما زلت. وإذا كان الفارس قد ترجّل اليوم، فإن الطريق الذي رسمه سيظل ممتدًا، يهتدي به من يحملون الراية من بعده، ويبقى أثره شاهدًا على رجلٍ منح الحركة الكشفية العربية أجمل سنوات عمره. هذا علمي وسلامتكم.





