لا أعرف شعورًا أثقل على القلب من لحظة الوداع، فأنا من طبعي لا أحب الفراق ولا أطيق الوداع، ولا أجد له مكانًا بين طبقات روحي، لكن الدنيا – بحكمتها التي لا نفهمها دائمًا – تجمعنا بحب، ثم تفرّقنا بلطف… وكأنها تذكّرنا بأن اللقاء نعمة، وأن الذكريات زاد لا ينفد.
خمسة أيام فقط… لكنها حملت روحًا تساوي أعمارًا، خمسة أيام من برنامج عمرة الرواد 2، عشنا فيها بين رحاب مكة، نخدم، ونرافق، ونرتقي بأنفسنا قبل ضيوفنا، كانت أيامًا تشبه البركة… وتشبه النور… وتشبه الطمأنينة التي لا تُشترى.
وفي مساء الختام… جاء الامتحان الأصعب، وفي صباح الوداع كان الأمر أصعب، عندما التقيت بالشهم الكريم، الملهم بحضوره وأخلاقه، الأستاذ فيصل العنزي، اقترب مني بابتسامته التي لا تُخطئها العين، ثم ودّعني بيُسر بيت شعر لا يزال صداه يرافقني، بيت شعر كعادته… صادق، دافئ، نابع من قلب يعرف معنى المروءة، ويعرف كيف تكون الكلمة عزاءً وعناقًا في آن واحد، في حضور صاحب العطاء الواسع، السباّق إلى الخير، الدكتور عاطف عبدالمجيد، أمين عام المنظمة الكشفية العربية الأسبق، والذي يترك في كل مجلس بصمة، وفي كل لقاء أثرًا لا يبهت، وفي لحظتها… شعرت أن الدنيا كلها توقفت.
ولم يطل الوقت حتى حضر قائدنا الملهم، الرجل الذي نستلهم منه روح القيادة الهادئة، الأستاذ الدكتور عبدالله بن سليمان الفهد، رئيس رابطة رواد الكشافة السعودية، صافحته… فوجدت في عينيه تقديرًا يتكلم أكثر مما تقول الشفاه.
ولعل الألم الذي تسلل إلى صدري في عشية الختام، وفي صباح الوداع، لم يكن سببه الوداع فقط، بل شيء أعمق… شيء يشبه الشعور بالعجز أمام الكرم الخاص.
فعندما يُكلَّف المرء منسّقًا لبرنامج كبير مثل عمرة الرواد 2، فهو يُمنح شرفًا عظيمًا، وشرف الخدمة هذه نعمة تُتلقى بامتنان، لكن هذا الشرف يأتي أحيانًا بوجه آخر، وجهٍ يوجع القلب.
فأنت تستقبل ضيوفك في مدينتك، في مكة التي تحب، في المكان الذي تمثّله وتفخر به، لكن لا تستطيع أن تستضيفهم في منزلك الخاص، ولا أن يعيشوا معك تفاصيل يومك ودفء أسرتك كما تتمنى، وتكتشف أنك خسرت – دون قصد – فرصة إنسانية نادرة، الفرصة الخاصة التي كنت تحلم بها أمام الواجب العام الذي لا يمكنك التفريط فيه.
قدت البرنامج بشرف - ولله الحمد - ، وبذلت جهدي كله، لكن يبقى في القلب غصّة، أن ضيوفي الذين أحببتهم، لم يعيشوا معي تلك اللحظة الأسرية التي كنت أرجوها، ولم يطلعوا عن قرب على عالمي، على تفاصيل حياتي، على جزء من ذاتي كنت أحتاج أن أشاركه معهم.
إنه ثمن باهظ، ثمن يدفعه من يتولى أمانة كبيرة، ثمن يعرفه فقط من عاش معنى الجمع بين المسؤولية… ومشاعر الإنسان.
لكن ما رأيته في عيون ضيوفي الثلاثة هون علي كثيرًا؛ رأيت شيئًا لم يُقال بصوت، رأيت الرضا بمستوياته الهادئة، ورأيت حبًا صادقًا ودفئًا إنسانيًا لا يجيده إلا الكبار… كبار الأخلاق قبل المناصب.
افترقنا وبقي صدى خطواتهم يلاحق قلبي.
عمرة الرواد 2 ليست قصة طُويت، بل هي بداية حكاية ستُروى في سلسلة قادمة – بعد قليل من الراحة – كما يجب، بكل ما فيها من محطات… ووجوه… ومواقف… ودموع خفية ما زالت تحرق أطراف القلب.
إلى كل من ودّعتهم، إلى كل قلب أحبّ دون كلمات، إلى كل لحظة لن تُنسى ، اقول لهم شكرا وإلى اللقاء ،هذا علمي وسلامتكم.
ـــــــــ
منسق عمر الرواد 2





