لا تكمن أزمة اللغة العربية اليوم في ضعف المتعلمين لقواعدها، بل في ضعف صلتهم بمعناها ووظيفتها في حياتهم، فالخلل الحقيقي لا يبدأ من اللسان، وإنما من العقل الذي لم يعد يرى في العربية أداة تفكير، ولا وعاء معرفة، وإنما يراها مادة مدرسية مؤقتة تنتهي بانتهاء الاختبار.
لقد وُضعت قواعد العربية تاريخيًا لضبط لسان عربيٍّ واعٍ بلغته.
أما اليوم، فنحن نُدرِّس النحو لعقولٍ تتساءل عن جدوى اللغة نفسها، وهو ما يحوّل الدرس اللغوي إلى ممارسة تقنية معزولة عن سياقها الثقافي والحضاري.
وفي ذات الصدد يقول الدكتور محمد مصطفى الكنز: "لم تعد مهمة معلم اللغة العربية اليوم مهمة تعليم قواعد فحسب، بل أصبحت مسؤولية ثقافية وفكرية، إذ لم يعد الخلل مقتصرًا على اللسان، بل طال العقل والوعي. فما جدوى أن نعلم طلابنا أن المبتدأ مرفوع، والمفعول به منصوب والمضاف إليه مجرور، بينما يسألون ببراءة أو شك، ما فائدة
اللغة العربية في حياتنا؟" انتهى بتصرف.
إن تعليم العربية لا يستقيم ما لم يُعاد ربطها بوظيفتها العميقة: لغة للمعنى، وأداة للفهم، وجسرًا للانتماء. فاستقامة اللسان تابعة لاستقامة الوعي، وعروبة العقل شرط سابق لعروبة الألسنة. وحين تُنتزع اللغة من سياقها الحضاري، تصبح القواعد عبئًا ذهنيًا، لا وسيلة إدراك.
وفي هذا السياق، يكثر الالتباس في فهم الاحتفاء باللغة العربية، خاصة في يومها العالمي؛ إذ يُختزل أحيانًا في مظاهر شكلية: شعارات، لوحات، أركان مدرسية، وأنشطة سريعة لا تترك أثرًا معرفيًا أو جماليًا حقيقيًا. وهذه الممارسات –على أهميتها التنظيمية– لا تُحيي لغة، ولا تُعيد لها مكانتها في الوعي.
وترى المعلمة القديرة: صفية الزهراني " أن الاحتفاء الحقيقي باللغة العربية أن نطلق المجال للمواهب، لتظهر، والمهارات لتبهر من خلال: ناثر، وشاعر، ورسام، وخطاط، وخطیب مفوّه، متحدث بارع، وقارئ ناقد ...إلخ" بتصرف
كما أنه يجب علينا أن نعمد إلى كشف المواهب اللغوية، ورعايتها، وإتاحة المنصات لها لتتحدث بلغتها، وتعتزّ به.
ولا يمكن عزل واقع اللغة عن السياسات التعليمية الكبرى؛ فاللغات لا تنهض بالمبادرات الفردية وحدها، بل بقرارات تربوية واضحة تجعل القراءة العميقة في الأدب، جزءًا أصيلًا من تكوين الطالب.
أما تخريج أجيال منقطعة عن تراثها، مترددة في لغتها، فذلك خلل بنيوي لا تعالجه التقنية، ولا تعوضه الأدوات الذكية مهما بلغت فاعليتها.
ويبقى المعلم في قلب هذه المعادلة؛ إذ لم يعد ناقلًا للمعرفة، بل صانعًا للوعي، ومهمته اليوم أن يُعيد للغة معناها في نفوس طلابه قبل أن يُطالبهم بإتقان صيغها، فاللغة التي لا تُنتج عقلًا ناقدًا، لا تصنع مستقبلًا، واللسان الذي لا يستند إلى وعي، لا يحمي هُوّية.
"وترى الدكتورة/ سوسن الأبطح-صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية- أن العربية حلّها يأتي بقرار سياسي وتربوي، تماماً كما في الصين واليابان. فالطالب لا يتخرج من المدرسة إلا وقد قرأ لكبار الأدباء، وتعرف على أمهات كتب التراث" انتهى. بتصرف.
وفي اليوم العالمي للغة العربية، لعلّ السؤال الأصدق ليس كيف نحتفي بلغتنا؟ بل: كيف نُعيدها إلى موقعها الطبيعي في العقل، والفكر، والحياة؟





