في الأزمة تصل النُّفوس إلى ذروة السلبيَّة وسوء الظَّن، ويحضر الشَّيطان في صورة محلِّل للمواقف، ومُذكِّرٍ بما مضى، ومُصَوّرٍ لما يُستقبل! بحيث يجد كل طرف تفسير ما يُقال وما يُفعل من الطرف الآخر بأسوأ احتمال، وأشنع تأويل، هذا أمر –وإن كان معززًا للنزاع- قد يُحتمل بتعقُّل أحدهما، أو يُمحى بمرور اللحظة، لكن الأدهى والأمرّ حين تنقلب الحوارات لتُصبح (عن بُعد)! فيعجّ (الواتساب) بسيول جارفة جارحة، وتصبح الأجهزة الذكيَّة كموقد نار تُذكيه الرسائل! فلا يكاد الحوار يهدأ، ولا النفوس تعود لرشدها! فالحوارات عن بُعد لا تُلئم جُرحًا، ولا تقرِّب بعيدًا، ولا تُعجِّل شفاءً! ويستوي في ذلك الحديث الشفهي والرسائل المكتوبة.
أعرف صديقًا بدأت زوجته تناوشه في مشكلة ما، فلم يقطع التواصل بينهما إلا عبارة الطَّلاق! نعم.. كلُّنا ذاق من هذا النوع التواصلي الأمرَّين، وبعضنا اكتوى به، فالحوارات مواجهةً تنقل اللُّغة مغلَّفة بالمشاعر، فلغة الجسد حين يؤدى الحديث تصل إلى أبعد ما يمكن، ابتسامة قد تُطفئ نار الخلاف، وقُبلة تُنهيه، والعاقل من يُغلق باب الخلافات عن بُعد، ولا يتمادى في هذا التَّواصل؛ بل ينسحب بعبارة لطيفة: أراك ونتحدث، دعنا نتقابل ونتحاور، أشوفك والأمور بتنحل… وأمثالها من العبارات، بل إني أقول: الانسحاب بأي صورة أخف ضررًا من التَّمادي في إذكاء نار الخلاف عن بُعد.
إن الحديث المكتوب، والتَّراسل الفوري، والحوار عن بعد يقلِّل فرص التَّصالح، أتذكَّر أن رجلًا ادَّعى أن زوجته شتمته وقذفته، فإذا بها تُقسم أنها لم تفعل! وقد احتفظ برسائلها التي جعلتها تستغرب أنها صدرت عنها!! وهذا صحيح؛ ففي الأزمات الزوجيَّة قد يبلغ الغضب مبلغًا يجعل أحد الزوجين لا يدري ماذا يقول، فإذا بأصابعه تكتب ما لا يقصد! والطرف الآخر يستقبل ذلك الحوار مشحونًا بكل تلك الطاقات السلبيَّة.
وفي أزمة كالتَّعدُّد مثلًا تتضاعف الأزمة عن بُعد، ويحضر الشيطان مُصوِّرًا للزَّوجة المسكينة حال زوجها وقت الحوار الكائن خلف جهازه، فإذا به يُخيِّل لها أنه مع زوجته الأخرى في سعادة ويحاول تنغيص أجواء زوجته الأولى، ويظلُّ يُشعل في قلبها نار الغيرة، ويؤزُّها على كل نقيصة، ويدعوها للتَّطاول عليه بكل لفظ سيئ، فإذا بها ترسل له خاتمة حوارها: (طلِّقني.. طلِّقني)! وتعيدها مرارًا!
أيتها الفاضلة: طلب الطَّلاق لا يكون عن بُعد! ولا يُهدَم بيتٌ برسالةٍ طائشة في لحظة غضب، ماذا لو كان زوجك مُتعجلًا فردَّ: أنتِ طالق كما أردتِ! ثم حلفتِ أنكِ لم تقصدي أن يطلقك، وإنما كنتِ غاضبة عليه! أَزَواجٌ بُني في سنوات يُنهى في عبارة عن بُعد؟!
أعرف معدِّدًا إذا تأخر في الرَّد على رسالةِ إحدى زوجاته استشاطت غضبًا وكأنه بالفعل قصد سفهها، ثم إذا فتح رسائلها فإذا به يجد تصبيحة جميلة ووردة وقلب، وبعد ساعة: (عسى ماشر وينك؟؟؟) وبعد ساعة أخرى: (خير!!! ليه ما ترد والا أخذتك أم فلان ونسيتنا)، وتزداد الوتيرة صعودًا فإذا به خلال ساعات ثلاث قرأ الشَّيء وضدَّه! كل هذا لأن عمله صَرفه عن فتح (الواتساب)!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مؤلِّف، وباحث لغوي واجتماعي
masayed31@