مدخل أول:
يقول تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) صدق الله العظيم
مدخل ثان:
لتـبكِ عـليهِ الأنسُ والجـنُّ إذ ثــوى
فتــى مـضرٍ في كلَّ غربِ ومشرقِ
فتى عاشُ يبني المجدَ تسعينَ حجة
وكانَ إلى الخـيراتِ والمجـدِ يرتقي
فـمـا مـاتَ حتى لـمْ يخـلفْ وراءهُ
بِحَيّـة ِ وَادٍ صَـوْلَة ً غَيرَ مُـصْعَـقِ
جرير يرثي الفرزدق
مدخل ثالث:
ظــلَّ عـلـى الأيـدي تـسـاقـط نَـفْــسْه
ويذوِي كما يذوي القضيبُ من الرَّنْدِ
فـَيـالكِ مـن نـفـسٍ تـســاقـط أنــفُـساً
تـسـاقــط درٍّ مــن نِـظـَـام بـلا عـقـدِ
بن الرومي
مصيبة الموت، من أعظم المصائب التي ابتلى الله بها الإنسان، وهى الفاجعة التي تلازمنا في حلنا وترحالنا، في صحونا ومنامنا، في ليلنا ونهارنا، تفجعنا في الأهل والأحباب والأخيار والرموز الذين لو خُيّرنا لجعلنا أنفسنا مكانهم، ولكن هيهات، فإذا جاء أجل الله لا يؤخّر، كما أخبر الله العلي العظيم في كتابه الكريم: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ).
فُجعنا أمس، برحيل أمير القوافي وبدر الأدب، صاحب السمو الملكي الأمير الأديب الأريب و الشاعر المجيد بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود، شآبيب الرحمة والمغفرة تتنزّل على قبره، وهو البدر الذي لن يأفل بموته، والضوء الذي به يهتدى أهل السُرى، وإن دفنوه جسداً، ستبقى روحه الطاهرة محلقة في السماء، تخلّده ذكرى طيبة وأعمال خالدات.. وكأنه المعني بقول جرير:
لَقد غادَرُوا في اللَّحْدِ مِنَ كان ينتمي
إلـى كُـلّ نَجْـمٍ فـي السّـمـاء مُـحَـلِّقِ
ثَوَى حامِـلُ الأثقـالِ عــن كلّ مُغرَمٍ
ودامـغُ شيـطـانِ الغـشـومِ السـمـلقَّ
عــمـادُ تــمـيــمٍ كــلــهـا ولـســانـهـا
ونـاطــقـها البـذاخُ فـي كـلَّ مـنطقِ
رحيل البدر، أمير القوافي وبدر الأدب ، ترك غُصّة في حلوق كثيرة، وحزن رحيله المفاجئ أظلمت به دواخل الملايين في العالم العربي ممن سكنهم بحبه المبذول وبإبداعته التى شكّلت وجدانهم بجميل أشعاره وأنيق كتاباته، فلم يجدوا في أفواههم إلا طعم الموت ولم يسمعوا غير صوت النوادب ولم يبصرون جميلاً أو حسنا.. وكأني بهم تتلبسهم صورة إيليا بن ماضي:
فـليس سـوى طعـم المنـّية فـي فـمـي
وليس سوى صوت النوادب في أذني
ولا حسن في ناظري وقلّما فتحتهـما
مِــن قــبــلُ إلاّ عـــلـــى حــســـنِ
ومـا صـور الأشـياء، بعـدك غيـرها
ولـكـنـّمــا قـد شـوّهـتـها يـد الحـزن
الفقيد العزيز، ليس شاعراً تقليدياً أو أديباً فقدته الساحة الأدبية والفنية بالمملكة العربية السعودية، وإنما هو “مشروع ثقافي”، ضارب في عمق الأدب العربي، كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يستمد نبض حروفه من أصالته العربية وجذوره الإسلامية التي يعتز ويحتفي بها، وتظهر جلية في قصائده التي تلامس شموخ الشموخ وتعانق كبرياء الكبرياء، فهاهو في قصيدته “أنا النخيل” يشبِّه نفسه بالنخيل بكل شموخه وكبريائه، وبالسحاب الهتون الذي يسقي العطشى ويروي الظامئين..
أنا النخيل وشـعري اظلال وعذوق
وانا السحاب اللي على الناس جايد
وفي ليلةِ حسيت من جرحي اعقوق
وقــف النـزيف ومـا بـذي له عـوايد
صار الـورق ما بين مهمل ومشقوق
وحـار القـلـم ما بيـن ناقــص وزايد
وفي قصيدة “عض النواجذ”، تتجلّى أنفة الأمير الأديب، وهي عِزّة منبعها عزة المؤمن التي ارتبطت بعزة الله ورسوله، ولن تتأتى العِزة هملاً لمن لا يقيم على مكارم الأخلاق، ويتربّى على نبيل القيم وجميل الخصال، ولا غرو فالفقيد سليل المكرمات وحفيد المجد المؤثل، فإن لم يكن للمكارم مثله فمن لها في العالمين يكون:
أقــوم بـجــبـالٍ ولا أقـيــم فـي ســفــح
لو أطـعـمـوا لحــمـي لـعـوج المـخالب
يا بنت ما به ذنب يصعب على الصفح
كـود الهــوان وعــيش سحـم الـثعـالب
لا والـذي كــرّم جـديـلك عن النفح
العـز ما هـو بـيـن شـاري وجـالـب
الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، الذي توفي بالعاصمة الفرنسية باريس، عن عمر زاد عن السبعين عاماً، مواليد الرياض في الثاني من إبريل عام 1949م، نشأ وترعرع في بيت تحفّه مكارم الأخلاق ويزيّنه الأدب وتكسوه القيم الإسلامية وجميل العادات العربية، فتشبّعت روحه من هذا المنهل العذب، وتشرَّب هذه القيم الفاضلة التي انعكست على شعره، فهو يرى أنه يعيش للآخرين ويبذل عمره ووقته من أجل الغير، ويسعى أن يحافظ الشعر العربي على أصالته، ويعصر جهده في الشعر والأدب ليس من أجل مكسب شخصي:
كتبـت ما كنـي على الشعـر مسبـوق
وقريت ماكن اف قـصيدي .. جدايد
ونزفت لين اتعبت لا حصل اعروق
وسهرت لين أمـست نجـومي قـلايد
وصرت الليالي بين عاشق ومعشوق
وصرت الوصل ما بين حاضر وبايد
ومجـاد لـي فـي كـل سـاذج ومطروق
وخـوفي علـى غـر المعـانـي الفـرايد
عشر السنين وعشر والجوف محروق
مـا غـيـر أشـب أطـراف ليـلي وقـايد
مانيب أدور من ورى نزفي احقوق
ولا أبـي مــن سـهــر عيـنـي فــوايـد
لو ما بقالي في الملا غير مخـلوق
لا من ذكر شعري .. جفته الوسايد
كُرِّم الشاعر الأمير الأديب بمنحه “وشاح الملك عبدالعزيز” -أرفع وسام في المملكة العربية السعودية- عام 2019، وفي ذلك تقدير من سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، واحتفاء بـ “الفن” كرسالة نبيلة ذات مضامين إنسانية عظيمة تقوم على دعائم الحُب والسلام، وفي ذات العام 2019م كرمته منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو) في اليوم العالمي للشعر، تقديراً لجهوده الأدبية وإسهاماته الشعرية والفنية والثقافية التي بدأت منذ مطلع السبعينات. كما كرّمته أيضاً الهيئة العامة للترفيه السعودية عام 2019م في ليلة حملت معاني الوفاء والعرفان، كان عنوانها “ليلة الأمير بدر بن عبد المحسن: نصف قرن والبدر مكتمل”. ولا غرابة فالبدر المنير كان أهلاً لهذا الاحتفاء والتكريم نظير ما قدّم من أدبٍ رفيع وفن سام.
تغنى بأشعاره الخالدة عشرات المطربين في الخليج وفي العالم العربي، لكونه صاحب مفردة أنيقة وحرف جميل، حتى لُقِّب بـ “مهندس الكلمة”، ويا له من مهندس بارع، ومن أبرز الذين تغنوا بأشعاره، طلال المداح، محمد عبده، كاظم الساهر، عبد المجيد عبد الله، عباد الجوهر، راشد الماجد، خالد عبدالرحمن، عبدالله الرويشد، صابر الرباعي، وغيرهم.
رحل الأديب الأمير، ولكن ضياؤه باق، وسيظل خالداً في حياتنا، يمنحنا الضياء في غياهب الظلام، ويمدنا بالنور في حالكات الليالي، وهل يعرف البدر الأفول؟.
اللهم ارحم واغفر لعبدك الفقير إلى رحمتك، وأنزله اللهم منازل الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وتعازينا الحارة لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، وإلى الأسرة الحاكمة، ولعموم الشعب السعودي، ولقبيلة المبدعين في كل المنطقة العربية.
مدخل للخروج:
آخر كتابات الراحل، كانت هذه التغريدة بحسابه على منصة إكس “تويتر”، وكأنه ينعي فيه نفسه:
الناس ما هـمَّـهــا ظـروفــكْ
كـود الـذي يـحــزن لـغــمّـكْ
وإن شلت حملك على كتوفكْ
بتـمـوت مـا احـدٍ تـرى يمّـكْ