
في قلب مشعر منى، وعلى بُعد خطوات من جمرة العقبة، يقف مسجد البيعة شامخًا، شاهدًا على لحظة مفصلية في تاريخ الإسلام، حيث تمت بيعة العقبة التي مهدت لهجرة النبي محمد صل الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وانطلاق الدولة الإسلامية.
بيعة العقبة: البداية التي غيرت مجرى التاريخ
في السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية، اجتمع اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج مع النبي صل الله عليه وسلم في هذا المكان، وبايعوه على الإسلام. وفي العام التالي، جاءت بيعة العقبة الثانية، حيث بايع النبي صل الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من أهل المدينة، متعهدين بحمايته ونصرته، مما مهد لهجرته إلى المدينة المنورة وبداية تأسيس الدولة الإسلامية.
تاريخ المسجد: من العباسيين إلى العصر الحديث
في عام 144هـ، أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ببناء مسجد في موقع البيعة، تخليدًا لهذا الحدث العظيم. المسجد، الذي يقع في “شعب الأنصار” بالقرب من جمرة العقبة، يتميز بتصميمه المعماري الفريد الذي يعكس الطراز الحجازي التقليدي، باستخدام الطوب المنقبي والجبس والأخشاب. وقد شهد المسجد عدة تجديدات عبر العصور، منها عمارة الخليفة العباسي المستنصر بالله في عام 625هـ، كما هو موثق في النقوش الموجودة على جدرانه.
مشروع الأمير محمد بن سلمان: إحياء التراث الإسلامي
ضمن المرحلة الثانية من مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، تم ترميم مسجد البيعة، مع الحفاظ على طرازه المعماري الأصيل. المسجد، الذي تبلغ مساحته 457.56 مترًا مربعًا، يستوعب 68 مصلٍّ، ويتميز بواجهاته البسيطة التي تعكس الخصائص البيئية والعمرانية للمنطقة.
يهدف المشروع إلى إعادة تأهيل المساجد التاريخية للعبادة، واستعادة الأصالة العمرانية، وإبراز البُعد الحضاري للمملكة، وتعزيز المكانة الدينية والثقافية لهذه المساجد.
مسجد البيعة اليوم: وجهة للزوار والحجاج
رغم التوسعات والتطورات التي شهدها مشعر منى، لا يزال مسجد البيعة يحتفظ بمكانته التاريخية والدينية. يقصده الزوار والحجاج للتأمل في لحظة تاريخية شكلت نقطة تحول في مسيرة الإسلام، وللتعرف على العمارة الإسلامية التقليدية التي تعكسها جدرانه وأروقته.
مسجد البيعة ليس مجرد مبنى تاريخي، بل هو رمز للوفاء والعهد، وشاهد على لحظة اجتمع فيها الإيمان بالعزيمة، لتبدأ رحلة الإسلام نحو بناء حضارة عظيمة.