خطب وأمّ المصلين لصلاة الجمعة في المسجد الحرام إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور ياسر الدوسري، واستهل فضيلته خطبته قائلًا: معاشرَ المسلمين: إنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ على عِبادِهِ أنْ فَاضَلَ بينَ الأماكنِ والأزمانِ، وخصَّ منهَا مَا شَاءَ بمَزيدٍ مِنَ الأفضالِ والإحسانِ، وها أنتُم اليوم – يا عبادَ اللهِ – تَستقبلُونَ عشرَ ذي الحجةِ بمَا فيهَا مِنَ الهباتِ الإلهيةِ، والأُعطياتِ الربانيةِ، تستنشِقُونَ عَبيرَ نَسَماتِهَا، وَتنعَمُونَ بشَذَا نَفَحَاتِهَا، هيَ أعظمُ الأيامِ عندَ اللهِ فضلاً، وأَعلَاها شَأناً، وأكثرُهَا أجراً، هيَ للمؤمنينَ مغنَمٌ لاكتسابِ الخَيراتِ ورفعِ الدّرجاتِ، وفُرصةٌ لتحصيلِ الحسناتِ والحَطِّ مِنَ السيِّئاتِ، واستدراكِ مَا فاتَ مِنَ الطاعاتِ، وهيَ موسمٌ لإجابةِ الدعواتِ، وإفاضةِ البركاتِ والرَّحماتِ.
أَقسَمَ اللهُ بِهَا، فَقَالَ: {وَالفَجرِ وَلَيَالٍ عَشرٍ}، وهِيَ الأيامُ المعلُومَاتُ التِي أَخبَرَ اللهُ عنهَا بِقَولِهِ: {لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذْكُرُوا اسمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ}، فأيامُهَا مِنْ أَنفسِ نفحاتِ الزمانِ، ومِنْ أطيبِ مَا يُعْمَرُ بهِ الجِنانُ، والعملُ فيهنَّ مباركٌ ومحببٌ إلى الرحمنِ، فليسَ فِي الأيامِ مَا يُمَاثِلُهَا، وَلَا فِي أُجُورِ الأَعمَالِ مَا يَعدِلُهَا، فعَنِ ابنِ عباسٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَا مِنْ أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ مِن هَذهِ الأيَّامِ العَشرِ». قَالوا: يا رَسُولَ اللهِ، ولا الجِهادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: «ولا الجِهَادُ فِي سَبيلِ اللهِ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ» رواهُ التِّرمِذِيُّ.
أيهَا المؤمنون: لقدْ خُصَّتْ هذِهِ الأيامُ بهذِهِ الفَضَائِلِ لاجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ العِبَادَةِ فِيهَا؛ وذلكَ لا يَتَأَتَّى في غيرِهَا، ولا يتسنَّى فِي سِوَاهَا، ومِنْ أَعظمِ الأعمالِ التي يَنبَغِي لِلعَبدِ أَنْ يَحرِصَ عليهَا في هذِهِ العَشرِ: تَجدِيدُ النِّـيَّةِ وإِخلَاصُ العَمَلِ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مَعَ تَمامِ المُتابعةِ للنبيِّ ، فالأعمالُ لا تُقْبَلُ إلا بهِمَا، قالَ تَعَالَى في الحَديثِ القُدسِيّ: «أَنَا أَغنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلاً أَشرَكَ فِيهِ مَعِيَ غَيرِي تَرَكتُهُ وَشِرْكَهُ» رواهُ مُسلِم، وَعنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: قَالَ رسولُ اللهِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواهُ مُسلم.
ويُشْرَعُ في هذهِ العَشرِ: المبادرةُ بالتوبةِ النَّصوحِ والرجوعِ إلى اللهِ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}، كَما يجبُ عَلى المسلمِ المحافظةُ على الفرائضِ والواجباتِ؛ مِنْ صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍ، فذلكم أفضلُ مَا يَتقرَّبُ بِهِ العبدُ لربِّهِ جَلَّ وعَلَا، قَالَ اللهُ تعالى فِي الحَدِيثِ القُدسِيّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افتَرَضتُهُ عَلَيهِ…» رَوَاهُ البخاريُّ.
ولِذَا كانَ مِنْ أجلِّ الأعمالِ الصالحةِ وأزكاهَا عندَ مَليكِكُم في هذهِ الأيامِ الحجُّ إلى بيتِ اللهِ الحرَامِ، والذي جاءَ الأمرُ بِبلوغِ رِحابِهِ لأدَاءِ رُكنٍ هو خامسُ أركانِ الإسلامِ، قالَ تَعالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}.
وها هِيَ قلوبُ الحُجَّاجِ قدْ أمَّتْ البيتَ العَتيقَ، وبدأَتْ وفودُهم تَصِلُ مِنْ كلِّ فجٍّ عميقٍ، تلبيةً لدعوةِ إبراهيمَ عليهِ السلامُ، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، ولقدْ وعَدَ اللهُ ضيوفَهُ بالخيرِ العظيمِ، والثَّوابِ العَميمِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» متفقٌ عليهِ.
واعلمُوا – يا عبادَ اللهِ – أنَّ الحجَّ واجبٌ مرةً واحدةً في العُمُرِ على كلِّ مسلمٍ مُستطِيعٍ، فسارِعُوا إلى أَداءِ هذَا النُّسُكِ العظيمِ، وتداركُوا أَعمارَكُم قبلَ الرحيلِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعَجَّلُوا إِلَى الحَجِّ، يَعْنِي: الفَرِيضَةَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ» رواهُ أحمدُ.
ومِنَ الاستطاعةِ في هذَا الزمانِ الحصولُ على تصريحِ الحجِّ، الذي اشترطتْهُ الجهاتُ المُختصةُ تحقيقاً للمصالحِ الشرعيةِ، وقدْ أكَّدَ البيانُ الصادرُ عنْ هيئةِ كبارِ العلماءِ أنَّ الالتزامَ باستخراجِ تصريحِ الحجِّ يَستندُ إلى مَا تقرِّرُهُ الشريعةُ الإسلاميةُ مِنَ التيسيرِ على العبادِ في القيامِ بعبادتِهِم وشعائرِهِم ورفعِ الحرجِ عنهُم، وقدْ جاءَتِ الشريعةُ بتحسينِ المصالحِ وتكثيرِهَا، ودَرْءِ المفاسدِ وتقليلِهَا.
أيهَا المسلمونَ: وإنَّ مِمَّا يُشرَعُ في هذهِ الأيامِ صِيَامُ تسعةِ أيامٍ مِنَ العَشرِ، وأفضلُهَا صيامُ عرفةَ، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ» رواهُ مسلم.
وَمِمَّا يُشرَعُ في هذهِ العَشرِ أيضاً: الإكثارُ مِنَ التَّهلِيلِ وَالتَّسبِيحِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ». رواهُ أَحمَدُ، فهذهِ أيامٌ مُبَاركةٌ، وأوقَاتٌ بالخيرِ عَامِرَةٌ، فاقْدرُوهَا حقَّ قَدرِهَا، وعظِّموا شعائرَ اللهِ فيها؛ {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
واستهل فضيلة خطبته الثانية قائلاً: إنَّ مِنْ أعظمِ مَا يَتقرَّبُ به المسلمونَ مِنَ الأعمالِ، في خِتامِ هذهِ الأيامِ: الأُضحِيَةُ في اليومِ العاشرِ منْهَا، ويُسَنُّ لِمن أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَن لا يَأخُذَ مِن شَعرِهِ وَأَظفَارِهِ شَيئًا، مِن دُخُولِ شَهرِ ذِي الحِجَّةِ إلى أَنْ يُضَحِّيَ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ». رَوَاهُ مُسلِمٌ.
فتمسَّكُوا رحمكُم اللهُ بآدَابِ الإسلامِ المُثلى، وأخلاقِهِ العُليا، وتوبُوا إلى اللهِ عمَّا مضَى مِنْ حياتِكُم، وأحسِنُوا فيمَا بَقِي مِنْ أعمارِكُم، واعلمُوا أنَّ العبادةَ أعظمُ كرامةٍ يُكرِمُ اللهُ بهَا العابِدينَ، ويرفعُ بهَا المتقينَ، فهنيئاً ثمَّ هنيئاً لِـمَنْ عَزمَ على استغلالِ هذهِ العشرِ، واغتنمَ أيامَهَا بالاجتهادِ لينالَ الثوابَ والأجرَ، فجدُّوا واجتهدُوا، فمَا هيَ إلا أيامٌ قليلةٌ، يَنقَضِي تَعَبُهَا، ويَبقَى عَظِيمُ أَجرِهَا.
حُجاجَ بيتِ اللهِ: هَا أنتُم وصلتُم إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، وقدْ سُهِّلتْ لكمُ السُّبلُ، فاحمدُوا اللهَ على نِعَمِهِ، واسألُوهُ المزيدَ مِنْ فضلِهِ، واشكرُوهُ على نعمةِ الأمنِ والأمانِ، وعلى ما يسَّرَ لكُم مِنْ أسبابِ الخيراتِ وأداءِ العباداتِ، في ظلِّ خدماتٍ وجهودٍ فائقةٍ، وفَّقَ اللهُ لهَا المملكةَ العربيةَ السعوديةَ، التي شرَّفَهَا اللهُ بخدمةِ الحرمينِ الشريفينِ، فوفَّرتْ منظومةً متكاملةً منَ الخدماتِ والتسهيلاتِ، وهيأتْ كلَّ السُّبلِ لتيسيرِ وصولِ ضيوفِ الرحمنِ، واستقبالِهم بكلِّ حفاوةٍ وإكرامٍ، لينعمُوا بأداءِ مناسكِهِم بكلِّ يُسرٍ وسكينةٍ واطمئنانٍ.
وإنَّنَا في هذَا المقامِ لنلْهَجُ بالدعاءِ لولاةِ أمرِنَا في هذِهِ البلادِ الموفَّقةِ على توجيهاتِهِم ومتابعتِهِم الحثيثةِ، وبذلِهم للغالي والنفيسِ في كلِّ مَا مِنْ شأنِهِ خدمة ضيوفِ الرحمنِ، فجزاهُم اللهُ عنَّا وعنكُم، حُجَّاجَ بيتِ اللهِ، وعنِ الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاءِ وأجزلَ الثوابِ، وباركَ في مساعِيهِم وجعلَ ذلكَ في ميزانِ حسناتِهم.