كانت ألمانيا النازية تعتبر النمسا جزءاً من الأمة الألمانية العظيمة .. لم يكن هذا رأي الألمان وحدهم بل وحتى رأي قسم كبير من النمساويين الذين يتحدثون الألمانية ولهم أبناء عمومة في فرانكفورت وميونخ وبرلين .. حتى هتلر نفسه كان يعيش في فيينا قبل انضمامه للجيش الألماني وفشل في دخول أحد معاهد الفنون فيها على أمل أن يصبح رساما عظيما (ولك أن تتصور كم سيختلف مجرى التاريخ لو نجح في تحقيق هذه الأمنية)…
وهكذا كانت النمسا أول دولة يتم ضمها سلميا لألمانيا قبل اشتعال الحرب العالمية الثانية.. وفي المقابل لم يكن قسم كبير من النمساويين راضين عن انضمام بلادهم لألمانيا فهرب عدد كبير منهم المعارضون على وجه الخصوص إلى خارج البلاد.. ومن الشخصيات التي هربت من النمسا بل وأوروبا كلها رياضي نمساوي يدعى هنريك هارير اشتهر عالميا بتسلق الجبال. كان معروفا منذ فترة طويلة بمعارضته لهتلر وللفكرة النازية فهرب الى الهند في خريف 1939 بحجة تسلق جبل إيفرست.. ولكنه حين وصل الى هناك كانت بريطانيا قد أعلنت الحرب على هتلر فتم اعتقاله من قبل السلطات البريطانية في الهند. وبعد قضاء فترة في معسكرات الاعتقال البريطانية هرب مع أحد أصدقائه الى جبال التيبت. وخوفا من اعتقاله مجددا قرر الوصول لمدينة ليهاسا المقدسة – التي تقع على ارتفاع كبير فوق سطح البحر وتحتفظ بمكانة خاصة لدى البوذيين هناك – .. وفي ذلك الوقت لم يكن سكان التيبت يعرفون الكثير عن أهالي أوروبا ومع ذلك لقي هارير الكثير من الترحاب والتقدير بسبب شكله الغريب أولا، ومهارته في التسلق والحديث بلغتهم ثانياً!
وذات يوم زارته امرأة وقور، وعرضت عليه العمل كمعلم شخصي للملك الآلهة الذي يحتل أقدس مرتبة لديهم (ويلقب بالدالاي لاما).. فالبوذيون في التيبت يعتقدون أن روح بوذا تظل تتناسخ في أجساد (الدالاي لاما) بصورة مستمرة ومتوالية. وهكذا كلما مات منهم أحد اجتمع الرهبان لاختيار طفل صغير من عامة الناس يرون عبر طقوس خاصة أن روح بوذا حلت فيه . وحين مات الدالاي لاما (رقم 13) وقع الاختيار على طفل صغير غير معروف اسمه الأصلي ليهامو ثونداب ليصبح الدالاي لاما (رقم 14)!
وحين وصل هارير الى مدينة ليهاسا المقدسة كان هذا الطفل قد وصل الى سن الخامسة فقط وكانت تلك المرأة هي أمه الحقيقية.. وحين سمعت بوجود هارير أدركت بذكائها أنها وجدت فرصة حقيقية لتعليم ابنها اللغة الانجليزية والألمانية وإطلاعه على الثقافة الغربية رغم أنه لم يعد لها الحق في لمسه أو حتى النظر في عينيه..
ومنذ ذلك اليوم تشكلت صداقة عميقة بين الطرفين واستفاد كل منهما من فلسفة وثقافة الآخر.. فمن جهته تعلم هارير الكثير عن فلسفة التيبت المسالمة (في وقت كانت فيه النار تأكل أوروبا). وفي المقابل تعرف الدالاي لاما على ثقافة الغرب وتعلم لغتين من هارير وألغى كثيرا من الصفات القدسية التي يحيطه بها سكان التيبت بفضل احتكاكه المبكر بالثقافة الغربية!
وفي حين مات هارير عام 2006 عن عمر تجاوز التسعين، ما يزال الدالاي لاما حياً يرزق ومطارداً من الصين..