صحيح أنَّ الصَّالحين من المستشارين والنَّاصحين يطمحون مع كلّ إشكال زوجي يُعرض عليهم أن يُعيدوا البيت إلى هدوئه، والزوج إلى زوجته، وهذا لعَمري من أعظم الأعمال الصالحة التي تُقرِّب إلى الله زُلفى، ذلك أن كبير الأبالسة يُقرِّب كلَّ شيطان فرَّق بين زوجين، فما ظنُّكم بمن يُحاربه ويسعى للصُّلح والتَّقريب بين الزَّوجين؟!
ومع ذلك فإن هناك مسؤوليَّةً عظيمة مُناطَة بأولئك المصلحين والأقارب ذوي الكلمة المسموعة والشَّفاعة المقبولة، فبعد أن تُحسن الاستماع من الطرفين، وتقف على عمق الإشكال، وأساس الخلاف ثم تتأكَّد أنَّ أحد الطرفين –أو كليهما- قد أغلق كلَّ الطُرق للرجوع لشريكه، واستنزف كل ما بوسعه في سابق الأيام والسنين للإصلاح، فإياك أن تقوده مُكرهًا لخوض تجربة أخرى مع شريكه خصوصًا إذا كان ذلك على حسابه دينه أو صحته، "ففي النَّاس أبدَالٌ وفي التَّرك راحةٌ"( )؛ إذا تيقنتَ أن القلوب افترقت، والنُّفوس تباعدت، وأن القُرب قد يُعيد إليهما مشكلات أكبر في المستقبل..
إنه يكفيك –أيها الحريص الكريم- أن تقدِّم ما لديك من محاولات للصُلح، وتدعوهما للتَّمهل وإعادة النَّظر في الفراق، وتسعى –ما وسعك- للبناء والاستقرار، وتُبيّن لهم عاقبة كل طريق يسلكونه، وتسعى لتهدئة حدَّة نفوسهم، ورغبة كل طرف في الانتقام والتَّشفِّي تحت شعار: آخذ حقي! ثم لا تُجبر طرفًا على ما لا يستطيع..
وكأنِّي بذاك الرجل (مُغيث) وهو يطوف يبكي ويشكي من شدَّة الوَجد وألم الفراق على شريكته (بريرة)، حتى تعجَّب من ذلك رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فكَلَّم بريرة: "لو راجعتِهِ؟!" فقالت: يا رسول الله تأمُرني؟، قال: "إنَّما أنا أشفَع"، قالت: لا حَاجَة لي فيه!
لما علمت (بريرة) أنَّها لا تُؤمر بالعودة لزوجها على وجه الإلزام من النبي –صلى الله عليه وسلم- صرَّحت برغبتها، ولم يُلزمها سيد البشر بأن تعود مُكرهة إلى (مغيث)!.
قد يحدث أن ينفجر الخلاف، وتبتعد المسافات، وتحت وطأة المصلحين، وتدخُل الشفعاء المخلصين تعود الزوجة لزوجٍ هي له كارهة، وتمرُّ السنوات وقد تزيد الذريَّة، فتتعاظم المسؤوليَّات ثم يكون فراقًا بتكلفة أعلى، ويُورث تشتتًا للأبناء وخلافًا واسعًا على الحضانة والنَّفقة!
وأنا هنا لا أدعو للتسرُّع في طلاق المختلفين، بل لتصحيح التصوُّر عند كثير ممن رأيتهم من المصلحين الذين يعدُّون أن نجاحهم هو في تحقيق نتيجة واحدة هي: الإبقاء على علاقة الزَّوجين، وعدم حدوث الطلاق مهما ظهر لهم أن استمرار الزواج أصبح مستحيلاً في ظل ما رأوه وما سمعوه من الطرفين، فهنا أقول لهم: إن نُصحَكُم لا يكتمل إلا بالصَّراحة للزَّوجين؛ فالحياة لا تُجاملنا مهما جاملناها! ولكل نتيجة مقدِّمات، وكون النَّاصح الأمين يرى أن الطَّلاق هو الحل في موقف ما؛ لا يعني أنه بذلك أفسد البيت!
إنَّ معرفة الطَّريق الصحيح ثم الخوف والتردد في سلوكه هو عجزٌ وضَعف، وهو سلوك سلبيّ لا علاقة له بالصَّبر؛ ففي الصَّبر تعقّل وإدراك للعواقب، وطريق للنَّجاح الـمُنتَظر، وليس تكرارًا للخطأ بانتظار الوصول للصَّواب؛ لذا كانت رؤية الحقّ حقًا لا تُثمر إلا باتِّباع ذلك الحقّ، وجاء في الأثر من دعاء الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "اللهمَّ أرنا الحقَّ حقًا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه".
"اختَر لنفسِكَ ما يليقُ بصدقِهِ ... ما كُلُّ مَن يأوي إليكَ خليلُ"
ـــــــــــــــــــــــــ
*باحث لغويُّ، وناشط اجتماعي