أكتب هذه الاسطر وأنا على ارتفاع شاهق في طائرة تُحلّق بنا من (شيكاغو) بولاية ( Illinois State ) نحو مدينة (نيويورك) بولاية (New York State) بالولايات المتحدة الامريكية ، في رحلة جوية تستغرق نحو ساعتين ونصف الساعة من الزمن ، وجدت نفسي أتأمل مشهدًا بات عاديًا في حياتنا، لكنه في جوهره إعجاز يستحق الوقوف عنده طويلًا ، قال تعالى في محكم التنزيل ﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (سورة النحل، الآية7 ) ويجعلنا أيضا نتأمل ماقاله نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة واتم التسليم عن السفر في الحديث المروي عنه عندما قال "السَّفرُ قطعةٌ من العذابِ، يمنعُ أحدَكم طعامَه وشرابَه ونومَه، فإذا قضى أحدُكم نَهمتَهُ فليُعجِّلْ إلى أهلِه" رواه البخاري ومسلم
في الجو وفي أحضان السحاب دائما اتفكر كيف لهذا الجسم المعدني الضخم، المحمّل بالعشرات من البشر وأمتعتهم، وبخزانات وقود ممتلئة ومحرك عملاق، أن يطير بثبات وأناقة في عنان السماء؟ .. إنها القدرة الإلهية التي سخّرت العلم، وأجرت قوانين الكون بحكمة لا يحيط بها إلا من خلقها قال تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾سورة الزخرف، الآيتان 13–14
وسط هذا الهيكل الحديدي العظيم، نحن – ببساطة– لا نملك من أمرنا شيئًا، لا نتحكم في اتجاه، ولا في ارتفاع، ولا في مصير... بل نحن في كنف الله ورعايته، تتجدد بداخلنا معاني التوكل، والتسليم، والثقة بعناية الله في كل لحظة طيران.
ومع ذلك، لا أشعر بثقل الرحلة، بل أجد فيها متنفّسًا لتأملات لا تطرق أبواب ذهني إلا في عزلتي بين السماء والأرض.
تعود بي الذاكرة إلى أخر رحلاتي الطويلة عبر المحيط، حين حلّقت من جدة إلى لوس أنجلوس، في رحلة امتدت لما يزيد عن 16 ساعة، وكنت أخرج منها دائمًا بزخم من الأفكار والخواطر، بعضها تحوّل إلى مقالات، بل أذكر أنني كتبت أكثر من 30% من أحد مؤلفاتي المهمة خلال رحلة بين جدة وواشنطن.
والسفر والترحال رغم ما قيل عنه إلا انه بالنسبة لي كالأكسجين الذي أتنفسه ، ففي سفري وترحالي لآكثر من 78 بلد حول العالم ، وجدت كل ما يخطر على البال
ورحلات الطيران –بالنسبة لي– ليست عبورًا من مكان إلى آخر فقط، بل هي عبور داخلي، ومراجعة للنفس، ولحظة صفاء نادرة، ينكشف فيها العقل وتتدفق الأفكار، كأنما نحن نرتفع قليلًا عن صخب الأرض، ونقترب أكثر من نداء السماء.
اللهم احفظنا في الحل والترحال، وبارك لنا في أسفارنا، ووفّقنا إلى كل خير، فنحن إليك متوكلون، وعليك معتمدون، ومنك نستمد الأمن والطمأنينة في كل طريق.