يقال أن فاقد الشيء لا يعطيه تتراوح وعند مناقشة تلك المقولة نجدها تحتمل القبول والرفض فأن كان القصد منها أنّ من لا يمتلك الشّيء لا يمكنه أن يقدمه لغيره والعكس صحيح، أن سلمنا مجازاً بصحة هذه المقولة فأن من حرم من العطف في صغره يعني ذلك أنه غير قادرٍ على منح العطف لغيره، وفاقد الخلق الحسن من الاستحالة أن تستقي منه هذا الخلق، وفاقد العلم يستحيل أن يمنحك ما ينمي علمك ومعرفتك، على الرغم أن هناك من يخالف تسليمنا بصحة هذه المقول والدليل على ذلك حينما نشعر بفقد إحساس ما نكون أكثر معرفة بالألم الذي يخلفه فقد هذا الإحساس، مما يجعلنا نسارع بمنحه إلى من نشاهده في مثل هذه الحالة حتى لا يشعر بالألم الذي عشناه، ومثال ذلك من يفقد العطف والحنان في صغره نجده في الكبر أكثر حرصاً على إعطائه لمن حوله حتى لا يعاني الآخرين مما عاناه، و أن من فقد الحب أو قاسى آلاماً بسببه يبذل المستحيل ليكون كأفضل ما يكون مع من يحب بعد ذلك حتى لا يجلدهم بنفس السوط الذي جلد به وأن الفاقد لنعمة رغد العيش يكون أكثر عطاءاً وبذلاً عندما تتسع معيشته لإدراكه أن الحرمان منه مُعاناة، ومن أجل ذلك لا بد أن نتفق أن معنى العبارة ففاقد الشيء لا يعطيه تعني أن من لا يملك شيء لا يستطيع أن يعطي غيره هذا الشيء، وأن العبارة لا تعني أن من حرم شيء فإنه لا يعطي غيره هذا الشيء الذي حُرم منه، فمن حرم من العطف لا يعني أنه ليس لديه خاصية العطف لأن العطف صفه من صفات الإنسان فهو يملك صفة العطف أساسا كصفة في البشر سواء منح العطف أم حرم منه وهنا يتضح معنى العبارة ففاقد الشيء تعني من لا يملك الشيء لا يستطيع أن يمنحه غيره لأنه لا يملك هذا الشيء من الأساس، وكثير ما نتعامل مع تلك المقولات وكأنها مسلمات وقوانين نبني عليها قراراتنا فنخطأ أحيانا بحق من نطبقها عليهم فهذه المقولة توارثناها واعتدنا أن نكررها دائما و تجاهلنا أن لكل قاعدة شواذ ففاقد الشيء قد يكون أفضل من يعطيه لأنه أدرى البشر بمرارة فقده فمن فقدوا الحنان والعاطفة هم أقدر الناس على منح ذلك الاحساس للأخرين، ومن فقدوا الأمان هم من يتوقون لمنحه لكل من أحبوا في حياتهم ومن لم يستطع نيل حظه في التعليم كان أكثر الناس حثاً لأبنائه على تحصيله، يقول علي عزت بيغوفيتش في كتابه “هروبي إلى الحريّة” في الوقت الذي اهتزت فيه مدينة نابولي الإيطاليّة من الضحك لعروض الممثل الكوميدي كارلينا جاء رجل إلى طبيب مشهور في المدينة وشكا إليه اكتئاباً شديداً اعتقدَ الطبيب في البداية أن المرض عضوي فباشر بإجراء الفحوصات المخبرية والتحاليل فتبين له أن المريض في أحسن حال واقتنع فعلا أن المشكلة نفسيّة، فقال للمريض أنت معافى جسدياً جرب أن تبحث عن المرح والتسلية لماذا لا تذهب إلى عروض كارلينا ؟ نظر المريض في عيني الطبيب وقال له أنا كارلينا سيدي الطبيب”، أحياناً فاقد الشيء يمنحك ضعفه لأنه يمنح نفسه معك ما فقده فكم من فاقد فتح نوافذ من الأمل لغيره وجعل من منبع الحرمان والفقد منبع عطاء ودفئ هؤلاء هم أصحاب القلوب الحقيقية الذين يخبروننا أنّ ثمة ضوء خافت في عتمة الحياة ويجعلوننا نحلم أن هذا الضوء سيصبح يوماً ساطعاً وأن العطاء رغم الفقد من ارقي واسمي مبادئ العطاء والحب..
بندر عبد الرزاق مال
مستشار وباحث قانوني
عضوية المجمع الملكي البريطاني للمحكمين
عضو بلجنة التحكيم وفض المنازعات بالغرفة التجارية الصناعية بينبع
عضوية جمعية الأنظمة السعودية جامعة الملك سعود
عضوية جمعية مكافحة الاحتيال السعودية
bander.abdulrazaq.mal@gmail.com