يقول الفيلسوف الروماني سينيكا : إن الأحزان الصغيرة ثرثارة، أمَّا عظيمها فأبكم.
رحمك الله وغفر لك وجعل مثواك الجنة يا عبدالعزيز.
كان مدمناً طوال حياته، منذ أن بدأت الحروف تدبُّ في وعيِّه. و في آخِر سنيِّ حياته أمسى مهرِّباً .. !
يعترف : " .. كان هناك سؤال من الذي علّمني
(الإدمان)؟
من الذي أوصلني إلى هذه المرحلة ؟
من يتحمل (إثم) ما وصلت إليه ؟
أنْ أُدمنَ القراءةَ مع اثنين من إخوتي.. ".
هو يعرفُ أنّ الوالد (رحمه الله) هو من كان يجلبُ القصص الشعبية ك ( المياسة والمقداد، رأس الغول، بدائع الزهور، عنترة بن شداد، سيف بن ذي يزن ) … إلخ.
رغم أن الوالد كان يقرأ بشيء من الصعوبة، ويكاد يتهجى في القراءة، أما الكتابة، فلا يعرف إلا كتابة اسمه.
و في آن المرحلة استطاع عبدالعزيز أنْ يقتنص جزأين من ( الف ليلة و ليلة )، من مكتبة في السوق الصغير، وقد غُلِّفت بورق صحف قديمة، لأنه ممنوع تداول هذا الكتاب آنذاك.
في أواخِر المرحلة الابتدائية، كان يصطحب أحد الكتب ويجلس في آخر الفصل، و يختلس من أوقات الحصص ليقرأ.
حين بدأ الفتى يتكسَّب (فتيان مكة يسهل حصولهم على عمل لتوفره) كان يصرف جُلِّ - إن لم يكن كلَّ - ماله في شراء الكتب من المكتبات في مكة، كمكتبة شُعيب في الجعفرية و الفيصلية بالفيصلية والثقافة بالحجون، و أُخَر، حتى أواخر السبعينيات الميلادية.
عندما التحق بجامعة الملك عبدالعزيز، و كان دون العشرين، شاهد إعلاناً لإذاعة جدة عن رغبتها لمذيعين. ذهب للإذاعة وهو يعرف أنه يتسلح بصوتٍ رخيم، و نطق واضح، متزوداً بقراءة سليمة، سبقَ صقلها بحفظه لستةِ أجزاء من القرآن الكريم، حين كان طفلاً بمسجد الكويتي بالهنداوية، وكان في صبيحة يوم الجمعة يذهب إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، برفقة بعض الحفظة ذوي الأصوات الندية، برفقة شيخهم، ليقرأ بعض الآيات، أمام مدير مشروع المسجد الحرام، الشيخ محمد صالح قزاز(يرحمه الله) حينذاك، و يُمنح مكافأة مالية تشجيعاً.
نما الفتى و نما شغفه للقراءة، لذا لم يكن يختلط بأقرانه كثيرا، لانشغاله بما يحب.
و كان مما يُحمد له أن مكتبته كانت مفتوحة لأبناء الحي، كان البعض يستعير و يُعيد و آخرون لا يُعيدون، بل يستعي، ولا يُضيره ذلك.
ذات عصر شاهدتُ أحدَ دواوين نزار قباني، أوراقه متفرقة في أحد أزقة الحارة، فعرفتُ الفاعل، فناديته و أشرت له إلى الأوراق المتناثرة (لِمَ) ؟! ..ابتسم و أدْلى برأسه من النافذة لكي لا يسمعهُ سِواي، و قال: أريدُ لفتاتي أن تشاهدها و تعرف مدى ولَعي بها.
ضحكتُ، و لملمتُ تلك الأوراق.. فالحصول على ديوان لنزار في ذاك الزمن لم يكن أمراً سهلاً.
حين شبَّ عن الطوق كان يقتني نسخاً متعددة من الكتاب الواحد، ليهديها لأصدقائه، ليشركهم حبَّه و إدمانه.
أما مرحلة التهريب فقد امتهنَها في آخر سنتين من حياته. حين ضاقت الشقة وأهلها بالكتب، قيل له: أن لا مزيد من الكتب حتى الإنتقال إلى شقة أُخرى فسيحة. هنا بدأ حينها تهريب كتاب أواثنين، كلما دخل الشقة.
حين باغتَتْه الجلطة قُبيل دخوله المستشفى في مرضه المميت وما زال تحت الفحص والتحاليل، خرج في اليوم الثاني و قت الزيارة، فاتصلتُ به: أين أنت ؟ فقال: قادم، كنت في البيت لأجلب كتابين. وبعد يومين طلب مني أن نخرج من المستشفى لمواكب الأجر، لأجل معرض الكتب. وفعلاً، تم.
الشاعر والأديب
لا أعلم بالتحديد متى تغشَّاهُ الشعر، بيدَ أن أول قصيدة له، نشرها في صحيفة الندوة إبَّان المرحلة الثانوية، وكانت عمودية طبعا.
و في منتصف الثمانينيات الميلادية، شارك في أمسية شعرية بنادي الجامعة الأدبي، مع ثلة من شعراء الحداثة منهم، محمد زايد الألمعي، أحمد البوق، عبدالمحسن يوسف، و آخرون، (طلاب الجامعة)، وقد صُبغت معظم القصائد بانتفاضة الحجارة بفلسطين، والتي كانت الحدث الطاغي حينها.
للأسف لا يحتفظ بقصائده، ولا يعنى بذلك، لذا فُقد معظمها.
نَزر يسير من النصوص كتبها بعد أن فتح صفحته بالفيس بوك.
هذه نُشرت في ابريل ٢٠٢١ مُهداة لصديقه عمر فقيهي و ظبيته.
هاته الظبيةُ تقتاتُ
من ضوء عينيّ
تشيلُ بقايا الغبشْ
تُرتل أهزوجةَ الرمل..
ثم تُطلقني للغناءْ
في أول عام له في التدريس بإحدى الثانويات بجدة، شاهد أحد طلبته يتعرض لحادث سير أودى بحياته أمام المدرسة، كان تأثير الحادث موجعاً عليه، فكتب قصيدة رثاء مؤثرة في نفس اليوم، أسمعني إيّاها، ولكنه فقد القصيدة، كعادته.
قال لي ذات يوم مازحا وأنا ألومه على عدم اهتمامه بحفظ ما يكتب: خلاص اتبعني و لملم قصائدي. ليتني فعلت.
هذه نُشرت في ابريل ٢٠١٨ في ابنه مالك (آخر العنقود)
يكادُ يذوبُ قلبي
حينما ألقاكَ تصعدُ بي
إليكَ
و ترتقي بجلالكَ الملكيِّ
تُشعلُ جمرَ شوقي
ترتدي قُبَلي
و تسمو بي إليّْ
أحيانا في نزهاتنا مع بعض الأقرباء و الأصدقاء، كان يرتجل شعراً للتسلية، تفرضه و قائع اللحظة، يُحرِّف بعض الكلمات، بالتبديل أو الحذف في الحروف، ولا يُفهم ما يُقال إلا من حضر المقام كقوله:
أرسلتْ لك من فوج عِيدَكْ تِخنباقْ
يلْفِي عليك يخنْبِشَك هَمِّلاَلي
مَكشَج شوا عَمْبَك و شرْمَخ لك العِيدْ
ولاَّ ترى للعيد قَومَش و ترديد
لحسن الحظ سجلها أحدهم أو حفظها، و عندما سُئل عن معاني بعض الكلمات، قال: لا أدري، هكذا جاءت، خذوها أو اتركوها.
في ابريل ٢٠٢٣ قال ناثراً ولعه أو شوقه :
" في أقاصي العمر هنالك ما يستحق أن ننتظره، هناك أبواب تنتظر مَنْ يدق عليها و أبواب نقف على عتباتها ننتظر قادمين قد لا يأتون يسكنون على ضفاف الدمع الذي جف… هل نحن أولئك الّذين خَطَطنا على نقا الرمل فلم يَعِ و لم تحفظ الريح كما قال شوقي ذات أُفق…"
ثمةَ نص استلهمه من شجرة السدر التي تُخيم على مدخل بيتنا في مكة، وقد عرّشت على الشارع والجيران، يقول :
تتكيء الأشجار على الأبواب
تلك الأبواب ال كانت ذات زمان أشجارْ
كانت ملأى بعصافيرَ مطوقةٍ بغناءْ
و بأعشاشٍ مزدحمةْ بقبائل طيرٍ و هجوعٍ
عند غروب الأيام …
تجتمع الأشجار على أطراف البابْ
تذرفُ دمع الأحباب
و الباب يرشُّ حنيناً يشبه وَجعَ غِيابْ
لا شك أنه طَعَّمَ موهبته الشعرية بدراسته النحو و العروض، وصادف أنه درس على جهابذة في النحو و اللغة و منهم، د. عبدالهادي الفضلي و د.خليل عمايرة و د. محمد يعقوب تركستاني …، و قد ظل على صلة وثيقة بالأخير حتى آخر وفاته. كما لازم المحدث و اللغوي والنحوي الشيخ أبو تراب الظاهري بالإذاعة والبيت، وكان للدكتور عبدالله الغذامي تأثير في دراسته النصوصية و النقدية.
أمَّا لِمَ لمْ يكتب بالصحافة ؟! فلا عِلم لِدي. بيد أني أظنه يأنف الانتظام، و به نفحة من الفوضى، إلاَّ أنه إذا التزم أمراً لا يبرحَهُ حتى ينجزه بإتقان، و يتجلى ذلك في إعداده البرامج الإذاعية. كان يطرّز برامجه بلغة راقية تنبض بالحياة، خارجة عن القوالب الرسمية المألوفة، لكنها منضبطة بالمسار الإذاعي.
نص بعد وفاة ابنته سارة ذات الثمان حِجج في فبراير ٢٠١٧م
سيطول انتظارُكِ طويلاً
و لن يستيقظ فجرُ عينيَّ على ضفافك ِ
المهجورة..
سأرتدي ثوب الجلال و أمرُّ على كل الدروب
التي تمشي عليها و أزرع شجر المعذرة..
الدروب التي كانت تُحيلني إليك، كم كانت
مخاتلة و لم تكن يوماً نبيّة
المذيع
كان مولعا بالإذاعة، عشقه الحقيقي خلف المايكرفون، و متعته و شغفه الذي لا ينتهي، كانت عِوضَهُ عن شطره الذي فقده عند مطلع حياته.
أخبرني ذات مرة أن أحد زملائه أخبره، عندما اختلف هو مع بعض المذيعين في مسألة لغوية أو نحوية(نسيتها)، و أيهما أصح ؟
نُقل الاختلاف إلى كبير المذيعين حينذاك عبدالله الشايع، فسأل:عبدالعزيز مع أيّ قول؟ فأُخبر، فقال: أنا مع عبدالعزيز.
كانت الإذاعة بيته الذي يُغنيه عن الكتابة في الصحافة، لذا كان يُصبغ كل برنامج يُعدّه بلغته الراقية الموشاة بنسائم الشعر، بعبارات لافتة في التركيب أو المعنى التي تشد انتباه المستمع.
حين كان ينقل صلوات الجُمَع أو رمضان من المسجدين الحرام والنبوي، كان يرتجل ما يقول و ينثال متدفقاً و قد تلبس صوته بقدسية و جلال المكان.
صوته لم يكن عريضا، إلاّ أن تميزه كان في الإلقاء، و خاصة الشعر، وذاك يعود إلى قدرته على تطويع صوته، بل يُمسْرِحه حسب النص والمقام. و لا أعرف كيف اكتسب هذه المهارة !
يقول:" قرأت قصيدة مالك بن الريب وهو يرثي نفسه في الإذاعة منذ سنوات.. و كل من سمعها قال كنا نسمع مالك بن الريب حتى الحشرجات في قصيدته أسْمعتَنا إيّاها، ولكأنَّه حاضر بموته في حنجرتك".
ذات جمعة في بداياته لنقل صلاة الجمعة من المسجد الحرام، عاد إلى البيت بعد الصلاة، استقبلته أُمَّهُ (المؤثرة فيه شعراً و صوتاً) بنغزة: " الله عليك.. من يسمعك و أنت تُعلِّق يقول هذا المذيع سُجادته على كَتِفه ".
أتذكر في منتصف رحلة مرضه، أن أحد المرافقين لأحد المرضى في ذات الغرفة، يخبرني بإعجاب ، لقد كان طوال الليل يقول كلاما وشعرا كأنك مذيع بالراديو، و هو لا يعرف عنه شيئا، قلت له إنه هذيان المرض، فقال: والله إنه أجمل هذيان سمعته في حياتي، كيف لو لم يكن مريضا ؟!
تلك كانت البكتريا التي تجري و تعبث في دمه.
في شدة مرضه سألني: هل جهزتم الظروف لتوزيعها ؟
كان ما في داخله ينطق بِخَبيئَته.. لقد رتب لقاءه بالله بالصدقة! بوركت حياً و ميتاً.
انتابتني أثناء الكتابة، لحظات وجوم، ذاك الوجوم الذي يسكت صاحبه، لذا أخذتْ مني الكتابة أياماً !
اسأل الله العلي القدير أن يجعل معاناتك في مرضك كفارة لك، اللهم آمين.